وتتجلى صعوبة صياغة هذه الوقائع، في أن الخفض الذي ينتج عن النفي لا يتموقع في السلم الحجاجي، ولا يتموقع أيضا في سلمية تدريجية موضوعية يمكن تعريفها بواسطة معايير فيزيائية.فلا تندرج الأقوال الإثباتية (من نمط "الجو بارد") والأقوال المنفية(من نمط "الجو ليس بارد) في نفس الفئة الحجاجية ولا في نفس السلم الحجاجي.ومع لك فقد اقترح أحد المناطقة المعاصرين صياغة تقريبية لهذا القانون نوردها كما يلي:
"إذا صدق القول في مراتب معينة من السلم، فإن نقيضه يصدق في المراتب التي تقع تحتها".
ويرتبط بمفهوم السلم الحجاجي مفهوم آخر هو مفهوم الوجهة أوالاتجاه الحجاجي ويعني هذا المفهوم أنه إذا كان قول ما يمكن من إنشاء فعل حجاجي فإن القيمة الحجاجية لهذا القول يتم تحديدها بواسطة الاتجاه الحجاجي، وهذا الأخير قد يكون صريحا او مضمرا، فإذا كان القول أو الخطاب معلما، أي مشتملا على بعض الروابط والعوامل الحجاجية، فإن هذه الأدوات والروابط تكون متضمنة لمجموعة من الإشارات والتعليمات التي تتعلق بالطريقة التي يتم بها توجيه القول أو الخطاب. أما في حالة كون القول غير معلم، فإن التعليمات المحددة للاتجاه الحجاجي تستنتج إذاك من الألفاظ والمفردات بالإضافة إلى السياق التداولي والخطاب العام.
الروابط والعوامل الحجاجية:
لما كانت للغة وظيفة حجاجية، وكانت التسلسلات الخطابية محددة بواسطة بنية الأقوال اللغوية وبواسطة العناصر والمواد التي تم تشغيلها، فقد اشتملت اللغات الطبيعية على مؤشرات لغوية خاصة بالحجاج. فاللغة العربية، مثلا، ، تشتمل على عدد كبير من الروابط والعوامل الحجاجية التي لا يمكن تعريفها إلا بالإحالة على قيمتها الحجاجية. نذكر من هذه الدوات: لكن، بل،إذن،حتى،لاسيما،إذ،لأن، بما أن ، مع ذلك، ربما، تقريبا، إنما، ما...إلا....إلخ.
إن هذه الأدوات التي دفعت ديكرو وأنسكومبر إلى رفض نموذج شارل موريس - والدفاع عن فرضية التداوليات المندمجة. وترتبط القيمة التداولية الحجاجية لقول ما بالنتيجة التي يمكن أن يؤدي إليها، أي بتتمته الممكنة والمحتملة، ولا ترتبط بتاتا بالمعلومات التي يتضمنها.
لقد اقترح ديكرو وصفا حجاجيا جديدا لهذه الروابط والأدوات باعتباره بديلا للوصف التقليدي. فإذا كان هذا الأخير يصف الأداة بأنها تشير إلى أن " ب " يستلزم " أ " فقط ، ويصف بأنها تشير إلى التعارض القائم بين القضايا التي تربط بينها، فإن الوصف الحجاجي لهذين الرابطين هو كالتالي: يسلم المخاطب بـ"ب" ، وبالإحالة على استلزام "ب" لـ " أ " ، فإن عليه أن يقبل " أ " ، وبالنسبة إلى " لكن" " تميل إلى أن تستنتج من " أ " نتيجة ما، لاينبغي القيام بذلك، لأن "ب" ، وهي صحيحة مثل" أ " ، تقترح النتيجة المضادة". أما بالنسبة إلـى" حتى" فليس دورها منحصرا في أن تضيف إلى المعلومة (جاء زيد) في القول ( حتى زيد جاء) معلومة أخرى (مجيئ زيد غير متوقع)، بل إن دور هذا الرابط يتمثل في إدراج حجة جديدة، أقوى من الحجة المذكورة قبله، والحجتان تخدمان نتيجة واحدة، لكن بدرجات متفاوتة من حيث القوة الحجاجية.
وينبغي أن نميز بين صنفين من المؤشرات والأدوات الحجاجية: الروابط الحجاجية والعوامل الحجاجية، فالروابط تربط بين قولين، أو بين حجتين على الأصح ( أو أكثر) ، وتسند لكل قول دورا محددا داخل الاستراتيجية الحجاجية العامة. ويمكن التمثيل للروابط بالدوات التالية: بل، لكن، حتى، لا سيما، إذن، لأن، بما أن ، إذ....
أما العوامل الحجاجية فهي لاتربط بين متغيرات حجاجية أي بين حجة ونتيجة أو بين مجموعة حجج) ، ولكنها تقوم بحصر وتقييد الإمكانات الحجاجية التي تكون لقول ما وتضم مقولة العوامل أدوات من قبيل: ربما، تقريبا، كاد، قليلا، كثيرا ، ما...إلا، وجل أدوات القصر.
وقد أدرج ديكرو مفهوم العامل الحجاجي، لأول مرة في مقاله المعنون"Notes sur L'argumentation et L'acte d'argumenter" المنشور سنة 1982، ثم فصل فيه القول بعد ذلك في مقاله المنشور سنة 1983، والذي يحمل عنوان"Opérateurs argumentatifs et visée argumentative:
ولنوضح مفهوم العامل الحجاجي بشكل أكثر، ندرس المثالين الآتيين:
*
الساعة تشير إلى الثامنة
*
؟ لاتشير الساعة إلا إلى الثامنة
فعندما أدخلنا على المثال الأول أداة القصر "لا....إلا"، وهي عامل حجاجي، لم ينتج عن ذلك أي اختلاف بين المثالين بخصوص القيمة الإخبارية أو المحتوى الإعلامي، ولكن الذي تأثر بهذا التعديل هو القيمة الحجاجية للقول، أي الإمكانات الحجاجية التي يتيحها. فإذا أخذنا القولين الآتيين:
*
الساعة تشير إلى الثامنة، أسرع
*
؟ لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة، أسرع
فسنلاحظ ان القول الأول سليم ومقبول تماما أما القول الثاني فيبدو غريبا، ويتطلب سياقا خاصا وأكثر تعقيدا حتى نستطيع تاويله وبعبارة أخرى، فهو يتطلب مسارا تأويليا مختلفا.
وإذا عدنا إلى المثال السابق (الساعة تشير إلى الثامنة )، فسنجد أن له إمكانات حجاجية كثيرة.فقد يخدم هذا القول نتائج من قبيل:الدعوة إلى الإسراع، التأخر والاستبطاء، هناك متسع من الوقت، موعد الأخبار ...إلخ وبعبارة أخرى، فهو يخدم نتيجة من قبيل :"أسرع"، كما يخدم النتيجة المضادة لها:"لا تسرع"، لكن عندما أدخلنا عليه العامل الحجاجي:"لا...إلا"، فإن إمكاناته الحجاجية تقلصت، وأصبح الاستنتاجي العادي والممكن هو:
- "لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة، لا داعي للاسراع".
أما الرابط الحجاجي (حروف العطف، الظروف...) فهو يربط بين وحدتين دلاليتين(أوأكثر)، في أطار استراتيجية حجاجية واحدة، وهذا في إطار الصيغة الجديدة للنظرية الحجاجية، أما في التصور السابق، فقد كنا نقول إنه يربط بين قولين (أو أكثر)، وقد تم التخلي عن هذا التصور لأن ظاهرة الربط جد معقدة، ولأن الربط بين الأقوال ليس إلا حالة خاصة، فقد يربط الرابط بين قولين وقد يربط بين عناصر غير متجانسة، كأن يربط مثلا بين قول وقولية(une enonciation )، أو بين قول وسلوك غير كلامي، إلى غير ذلك من الحالات الممكنة.
فإذا أخذنا المثال التالي:
*
زيد مجتهد، إذن سينجح في الامتحان فسنجد أنه يشتمل على حجة هي( زيد مجتهد) ونتيجة مستنتجة منها (سينجح)، وهناك الرابط (إذن) الذي يربط بينهما.
ونميز بين أنماط عديدة من الروابط:
1.
الروابط المدرجة للحجج (حتى،بل،لكن،مع ذلك،لأن...)والروابط المدرجة للنتائج (إذن،لهذا،وبالتالي.....)
2.
الروابط التي تدرج حججا قوية (حتى ،بل،لكن،لاسيما...)والروابط التي تدرج حججا ضعيفة .
ج- روابط التعارض الحجاجي (بل،لكن،مع ذلك...)، وروابط التساوق الحجاجي (حتى،لاسيما)
4- المبادئ الحجاجية:
وجود الروابط والعوامل الحجاجية لا يكفي لضمان سلامة العملية الحجاجية، ولا يكفي أيضا لقيام العلاقة الحجاجية، بل لابد من ضامن يضمن الربط بين الحجة والنتيجة، هذا الضامن هو من يعرف بالمبادئ الحجاجية (les topoi)،وهي تقابل مسلمات الاستنتاج المنطقي في المنطق الصوري أو الرياضي.هذه المبادئ هي قواعد عامة تجعل حجاجا خاصا ما ممكنا، ولها خصائص عديدة، نذكر منها ما يلي:
1.
إنها مجموعة من المعتقدات والأفكار المشتركة بين الأفراد داخل مجموعة بشرية معينة.
2.
العمومية:فهي تصلح لعدد كبير من السياقات المختلة والمتنوعة .
ج- التدرجية (la gradualite): إنها تقيم علاقة بين محمولين تدريجيين أو بين سلمين حجاجيين (العمل- النجاح) مثلا.
د- النسبية:فإلى جانب السياقات التي يتم فيها تشغيل مبدأ حجاجي ما، هناك إمكان إبطاله ورفض تطبيقه باعتباره غير وارد وغير ملائم للسياق المقصود، أو يتم إبطاله باعتماد مبدأ حجاجي آخر مناقض له. فالعمل يؤدي إلى النجاح ولكنه قد يؤدي إلى الفشل في سياق آخر إذا زاد عن الحد المطلوب وإذا نظر إليه على أنه تعب وإرهاق وإهدار للطاقة. وإذا نظرنا في المثالين التاليين :
- أنا متعب، إذن أنا بحاجة إلى الراحة
- سينجح زيد لنه مجتهد
فسنقول إن المبدأ الحجاجي الموظف في الجملة الأولى هو:
*
بقدر تعب الإنسان، تكون حاجته إلى الراحة
ويمكن أن يصاغ هذا المبدأ صياغة تعبيرية أخرى:
*
كلما كان الإنسان متعبا، كان بحاجة إلى الراحة
*
يكون الإنسان بحاجة على الراحة بمقدار ما يكون متعبا.
ونشير إلى أن اللغوي السويسري ألان براندوري صاغ هذه المبادئ صياغة استلزامية على الشكل التالي:"إذا أ،فإن ب" ، لكن ديكرو انتقد هذه الصياغة، واقترح صياغة أخرى ذات طابع تجريدي، وذلك باعتماد قيمتي "زائد"(+) و"ناقص (–)، بحيث عبر عنها بهذا الشكل:
Il fait beau, la promenade est agreable (≠)
*
ونترجمها على النحو التالي :
*
بقدر ما يكون الجو جميلا، تكون النزهة محبذة .
ويشتمل المثال الآخر على مبدأ حجاجي من قبيل:(الاجتهاد يؤدي إلى النجاح )أو(تكون فرص نجاح الإنسان بقدر عمله واجتهاده).
فالمبادئ الحجاجية إذن، هي مجموعة من المسلمات والأفكار والمعتقدات المشتركة بين أفراد مجموعة لغوية وبشرية معينة، والكل يسلم بصدقها وصحتها، فالكل يعتقد أن العمل يؤدي إلى النجاح ،وأن التعب يستدعي الراحة ،وأن الصدق والكرم والشجاعة كم القيم النبيلة والمحببة لدى الجميع، والتي تجعل المتصف بها في أعلى المراتب الاجتماعية، والكل يقبل أيضا أن انخفاض ميزان الحرارة يجعل سقوط المطر محتملا.وبعض هذه المبادئ يرتبط بمجال القيم والأخلاق، وبعضها الآخر يرتبط بالطبيعة ومعرفة العالم .
وإذا كانت المبادئ الحجاجية ترتبط بالإيديولوجيات الجماعية، فإنه من الممكن أن ينطلق استدلالان من نفس المقدمات، وأن يعتمدا نفس الروابط والعوامل، ومع ذلك يصلان إلى نتائج مختلفة، بل متضادة .ولن يفسر هذا إلا باعتماد مبادئ حجاجية تنتمي إلى إيديولوجيات متعارضة. لكن إلى جانب هذه المبادئ المحلية (topoi locaux) المرتبطة بإيديولوجيات الأفراد داخل المجموعة البشرية الواحدة، هناك مبادئ أخرى أعم، وهي مشتركة بين جميع أفراد المجموعة اللغوية، ومؤشر لها داخل اللغة.