المشهد الثالث (من الآية 63 الى 66)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
التفسير:
عاد اخوة يوسف من عنده الى بلادهم (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ) بالطعام و بدأوا في اخباره بما فعل عزيز مصر معهم (قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) في المرة القادمة ان لم يكن معنا أخونا كما طلب عزيز مصر (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا) نرفع به المانع من الكيل ثم (نَكْتَلْ) من الطعام (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) عن أن يناله مكروه.
و لأن هذه هى نفس العبارة التي قالوها لأبيهم يوم أن تخلصوا من يوسف و أباه الى الآن لا يعلم عنه شيئا فقد رد عليهم قائلا (هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) انكم قلتم في يوسف كما تقولون الآن ثم خنتم أمانتكم و لم توفوا بوعدكم فاتركوا وعودكم و خلوني من حفظكم ، و كأنه استشعر الخطر القادم فقد طلب الحفظ و الرحمة من الله تعالى اذ قال (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين) هو الذي سيرحم كبر سني و ضعفي . و انتهى بذلك الحوار بينهم و بعد أن استراحوا
(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ) يخرجوا ما فيها من غلال (وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) وجدوا معها بضاعتهم و هنا أرادوا أن يطيبوا نفس أبيهم (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) أى شىء نطلب وراء هذا؟ وفى لنا الكيل و رد لنا الثمن (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) و لو عدنا الى مصر و معنا بنيامين فسوف نأتي بالطعام (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا) أى نجلب لهم طعاما كذلك (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أى بوجود أخينا معنا ستزداد حمولتنا كيل بعير و ذلك لأن يوسف عليه السلام كان يعطي كل فرد فقط حمل بعير (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أى ذلك سهل ميسر في مقابلة أن يأخذوا أخاهم بنيامين معهم.
و أخيرا وافق يعقوب عليه السلام على مضض و لكنه جعل لموافقته على تسليم ابنه شرطا فما هو هذا الشرط؟ (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ) أى لتقسمن بالله قسما يربطكم أن تردوا على ولدي الا اذا غلبتم على أمركم لا حيلة لكم فيه و لا تجدي مدافعتكم عنه و هكذا أخذ كل الوثائق عليهم و أغلق كل المسالك أمامهم في محاولة التفريط فيه.
و هنا فقد سارعوا و آتوه موثقهم (فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) لم يكتف به بل (قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) أى أفوض أمري الى الله و هو وكيلي فيما تعاهدنا عليه و قلتموه و قلته.
و من هنا نتعلم هذه الدروس:
الدرس الأول:
أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين فالمؤمن كيس فطن لذلك يعتبر بما أصابه في الماضي ويمتنع عليه إن يحصل له مثلما حصل له من قبل بفطنته وذكاءه ولا يكون مُغفلاً .
الدرس الثاني:
أن التوكل على الله هو السبب في دفع المكروهات . فإن يعقوب لم يقل لن أرسله معكم فقط بل اعتمد على الله (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فتوكل يعقوب على الله عز وجل .
الدرس الثالث:
أن الإكرام-إكرام الناس- وسيله إلى جذبهم .
قال الشاعر ( أحسن إلي الناس تستعبد قلوبهم ) لكن هذا البيت فيه أمور خطيرة لأنه قال تستعبد قلوبهم ونحن نؤمن أن العبودية لله . فالإنسان يستميل القلب بالمعروف نعم لكن لا يستعبد لأن العبودية هذه لله فلا يجوز للإنسان إن يستعبد غيره لا بالإحسان ولا غيره .
الدرس الرابع:
أن الإنسان إذا رأى أنه محتاج لفعل أمر لكن فيه نسبه مخاطره مع شخص أخر لأن فيه شئ من عدم الثقة . فإن أخذ الموثق من الله … وأن يقول له عاهدني بالله العظيم أن تفعل كذا ولا تفعل كذا…… أن ذلك مما يقلل نسبه المخاطرة لذلك يعقوب قال( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ) الموثق الميثاق مثل أن يحلفوا له بالله العظيم أنهم يردون أخاهم ويرجعونه (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ)
الدرس الخامس:
أن الإنسان إذا غُلِبَ على أمره فهو معذور وهذا من فقه يعقوب حينما قال إلا أن يُحَاط بكم . فهو صح أن يطلب منهم أن يردوا أخاهم لكن فيما يقدرون عليه لكن إذا غُلِبوا ولم يستطيعوا أبداً فهم معذورون (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَاَ) (البقرة:286)
الدرس السادس:
أن إعلان التوكل على الله بعد إبرام العقود مما يُزيدها بركه وخيرا وتذكيرا للطرفين بما تعاقدا عليه فماذا قال يعقوب ( قال الله على ما نقول وكيل )
المشهد الرابع (من الآية 67 الى 68):
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
التفسير:
يوصي يعقوب عليه السلام بنيه (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا) مصر (مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ) من أبواب مصر (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) أى تفرقوا في الدخول فيدخل بعضكم من باب و البعض الآخر من باب آخر و هكذا.
و لكن لأن أمر الله هو الذي سينفذ و قضاءه هو الذي سيقع قال يعقوب (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أى لا أملك لكم من الله نفعا و لا ضرا و احترازي هذا لا يرد قضاء الله و قدره (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه) أى حكمه القدري القهري الذي لا مفر منه له وحده فلا يملك أحد لنفسه شيئا، أما حكمه الشرعي فهذا هو ما يملك الناس باختيارهم تنفيذه أو عدم تنفيذه و على أساس من التنفيذ أو عدمه يكون الثواب أو العقاب في الدنيا أو الآخرة و ما دمنا نؤمن بحكم الله القدري فلا بد من التفويض و التسليم و التوكل على الله تعالى (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) و فوضت أمري و أمر يوسف و بنيامين و أمركم جميعا الى الله سبحانه و تعالى (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فتوكلوا عليه و اعتمدوا عليه في كل أموركم.
و جمهور المفسرين قال أن يعقوب أمر بنيه بهذا لأنه خاف عليهم العين لكثرتهم و جلال أمرهم خاصة و أنهم كانوا أهل جمال و كمال و بسطة و الله أعلم ، أما الأستاذ سيد قطب فله رأى آخر و هو لو كان السياق القرآني يجب أن يكشف عن السبب لقال و لكنه قال فقط (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) فينبغي أن يقف المفسرون عند ما أراده السياق القرآني احتفاظا بالجو الذي أراده و الجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم و يرى في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشىء.
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) من أبواب شتى متفرقة
(مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) دخولهم هذا من الأبواب المتفرقة (مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أى ما كان يمنعهم من الدخول على هذا النحو من وقوع قدر الله و ما أراده لهم و بهم
(إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) الا أنها كانت رغبة في نفس يعقوب نفذها بهذه الوصية (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) من قدر الله و وجوب الايمان به و التسليم له و الصبر عليه و هو يعلم ذلك علما جيدا مما علمناه اياه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) و لذلك فأكثرهم لا يستسلمون راضين لقضاء الله و قدره و لا يفوضون أمورهم اليه.
و من هنا نتعلم هذه الدروس:
الدرس الأول:
الأخذ بالأسباب نسلكه تعبدا لا لدفع ضر و لا جلبا لنفع حيث أن النافع و الضار هو الله سبحانه و تعالى.
الدرس الثاني:
يجب على المسلم ان يحذر أخاه مما يخاف منه عليه و يرشده الى طريق السلامة و النجاة.
الدرس الثالث:
يجب ألا يمنعنا عدم الفهم لحكمة الله في قضائه و قدره بنا و معنا من التسليم و التفويض اليه و الرضا بقضائه و قدره على أى شكل يكون و على أية حال يأتينا فيها.
(تم بحمد الله الفصل الرابع)