الفصل الرابع
المشهد الأول (من الآية 54 الى 57):
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57(
التفسير
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أى أحضروا الى يوسف (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أى ليكون مستشارا لي آنس لرأيه و صديقا لي آنس بصحبته ، قالها الملك بعد أن تبين له كرامة يوسف و اباؤه في عدم تهافته على الخروج من السجن الا بعد أن تثبت براءته و بعد ان تبينت له درجة علمه في تسير الرؤى.
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ) و تحقق له صدق ما توسمه فيه و عرفه عنه (قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) انك يا يوسف عندنا ابتداء من اليوم ذو مكانة و قدر رفيع كما أنك في أمان و طمأنينة فلا خوف و لا ظلم.
لم يخر يوسف ساجدا و شاكرا للملك كما يفعل أهل عصره و أهل كل جاهلية و لم يقل كلمة توحي بالفرحة و لكنه استشعر الأزمة القادمة في البلاد و استشعر مسئوليته على ادارتها و اخراج البلاد منها بعون الله و من هنا (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ) أى اجعلني المسئول عن خزائن أرض مصر و قال خزائن الأرض و كأن خزائن مصر هى خزائن أرض الدنيا كلها و كانت كذلك بالفعل. ثم ذكر للملك سبب طلبه لهذا المنصب (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أى اني أملك مؤهلات هذا المنصب و هما الحفظ و العلم و أمين على ما تستحفظني عليه ، عالم بوجوب التصرف فيه و يلاحظ أن يوسف عليه السلام كان على ادراك كامل بأن هذه المسئولية كلها غرم لا غنم فيها و هى مسئولية يهرب منها الرجال لأنها قد تكلفهم رؤوسهم لأن الجوع كافر كما يقال و قد تمزق الجماهير الجائعة أجساد المسئولين في لحظات الجوع و الجنون.
و لأن يوسف عليه السلام يعلم يقينا أنه يمتلك أدوات النجاح و مؤهلات التفوق في هذه المهمة فقد أقدم عليها.
و لأنه عليه السلام يعلم أن انقاذ شعب من شعوب الله عبادة له سبحانه فقد طلبها صراحة.
و لهذا فطلبه ابتغاء لوجه الله لا لحب الدنيا.
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) و هكذا مكنا ليوسف في أرض مصر و تولى الوزارة بعد ان اكتسب الخبرة مما نزل به من ابتلاءات و نجح فيها و قد سلمت له مقاليد الأمور و خضع الجميع لرأيه و صار (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) أى له القدرة على التصرف في جميع شئونها .
(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ) أى نخص برحمتنا و نعطي من رحمتنا من نشاء من عبادنا الذين يحتمون بنا و يقصدوننا كما رحمنا عبدنا يوسف و أنعمنا عليه و القاعدة الربانية و السنة الالهية أننا (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فكما لم نضع على يوسف أجره على صبره في محنه التي مر بها فكذلك كل محسن في أى أمر يقصد به وجه الله لا نضيع أجره في الدنيا و لا في الآخرة.
(وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) نعم ،أجر الآخرة ليوسف عليه السلام و من كان على طريقه من المؤمنين المتقين أعظم و أفضل و أكثر و أجل من كل فضل في الدنيا.
و من هنا نتعلم هذه الدروس:
الدرس الأول:
للذين يمرغون كراماتهم من أجل مصالح شخصية و أغراض دنيوية قد تتحقق و لا تتحقق فان لم تتحقق ضاعت كرامتهم و ان تحققت فبدون كرامتهم ، و لو أنهم آمنوا بالقدر و لو أنهم قرأوا سورة يوسف و تعلموا منها لعرفوا أن الاحتفاظ بالكرامة مع الايمان بالقدر يحقق أضعاف ما يحقق لهم من التمرغ و التزلف و الانحناء مع ضياع الكرامة.
الدرس الثاني:
كل من تسند اليه مسئولية أو يكلف بمهمة ينبغي أن تتوفر فيه هاتان الصفتان: الأمانة و العلم.
فالأمانة تجعله يصون ما تحت يده و يحافظ عليه خوفا من أن يسأل عنه يوم القيامة فيعاقب على التفريط فيها.
و العلم يجعله يتصرف فيما وكل اليه على أحسن الوجوه بل يجعله جيد التدبير و التفكير في حسن ادارة ما استؤمن عليه.
الدرس الثالث:
جواز أن يطلب الانسان لنفسه عملا يكون له أهلا و لشروطه مالكا و للنجاح فيه واثقا و بطاعة الله من خلاله قادرا.
الدرس الرابع:
يجوز للانسان ان يصف نفسه بما فيه من علم و فضل عند من لا يعرفه اذا اقتضت الضرورة ذلك لتحصيل فائدة شرعية أو دفع مضرة.
الدرس الخامس:
يباح للمسلم أن يعمل للكافر بشرط أن لا يتحكم فيه الكافر ولا يجبره على مخالفات شرعية بل يفوض الأمر اليه دون معارضة أو تقييد.
فقد أخطأ من ظن أن مشاركة المسلم للوزارة في سلطة منحلة أو دولة ذات أغلبية كافرة كالهند مثلا حرام باطلاق و تجد أن بعض المسلمين يترددون في المشاركة في الحكم و ترشيح أنفسهم لمناصب الدولة و في هذا خطأ كبير فهم يحكمون على الاسلام بالدمار في تلك الدول لأنه الذي نفهمه من قصة يوسف أنه يستطيع المسلم أن يزكي نفسه في بعض الحالات و أن يستلم منصبا من مناصب الدولة اذا كان يريد ذلك خدمة لدين الله أو مصلحة المسلمين أو منفعة عامة لا يرافقها اثم و لا يضطر للنفاق و لا تقبيل النعال .
المشهد الثاني (من الآية 58 الى 62):
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
التفسير:
تولى يوسف امر الوزارة و أحسن ادارة أمور البلاد و تدبير شئونها و احوالها و بدأت السنوات الطيبات و كثر فيها المطر و أنبتت فيها الأرض بل أنتجت من الخير أضعاف ما كانت تنتجه قبلا و ادخر يوسف في هذه السنوات السبع من الغلات ما ادخر احتياطا للناس و خوفا عليهم.
و تبدأ السنوات السبع العجاف فلم تعد الأرض تنبت ما يلقى فيها من بذر و لا الشجر يخرج الثمرو عم القحط مصر و ما حولها أيضا من البلاد و منها كنعان التي فيها يعقوب عليه السلام.
و احتاط يوسف للناس في غلاتهم و أطعمتهم و ظهرت ملامح الصفتين العظيمتين اللتين رشحاه لهذه المهمة ( الحفظ و العلم) فكان لا يشبع نفسه و كان لا يأكل هو و لا الملك و لا جنودهما الا أكلة واحدة في وسط النهار حتى يكفي الناس ما بأيديهم مدة السبع سنين و شاع أمر يوسف في الأقاليم و البلاد المجاورة و ورد عليه الناس من سائر الأقاليم يمتارون لأنفسهم و عيالهم و من هؤلاء أهل كنعان بعد أن بلغهم أن عزيز مصر يعطي الطعام بثمنه دون مبالغة فيه و كان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة.
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) الى مصر خلال هذه المجاعة التي أصابت مصر و بلادهم لشراء الطعام من عزيز مصر.
(فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) أى دخلوا على عزيز مصر و هو أخوهم يوسف (فَعَرَفَهُمْ) حين نظر اليهم دون أن يسألهم (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أى و هم لا يعرفونه لأنهم فارقوه و هو صغير و ملامحه لابد أنها تغيرت بعد كل هذه السنين أما هو فعرفهم و امر بايوائهم و اكرامهم، و أخذ يسألهم أسئلة عن أسرتهم و عددها و اذا كان هناك غيرهم فقالوا له : كنا اثنى عشر فذهب أصغرنا هلك في البرية و بقى شقيقه و هو عند أبوهم.
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ) أى لما أوفى لهم كيلهم و حمل لهم أحمالهم.
(قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) أى ائتوني بأخيكم الذي تزعمون أنه من أبيكم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم لي من معلومات.
(أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أى ان أتيتم لي بأخيكم و وجدتكم صادقين فسأوفي لكم الكيل كما رأيتموني هذه المرة ثم قال مخوفا لهم اذا لم يحضروا أخيهم كما طلب (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ) فليس لكم عندي طعام و لا بيع معكم و لا شراء.
و نظرا لشدة رغبتهم في العودة للميرة مرة أخرى (قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) أى سنحرص على مجيئه بكل ممكن لتعلم صدقنا فيما قلناه و تميرنا و أهلنا عندما نعود اليك.
و بعد هذه الترغيب و الترهيب الذي صنعه معهم صنع امرا لا يخطر على بالهم اذ
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ) أى موظفيه و عماله (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ) التي قدموا بها من بلادهم الينا (فِي رِحَالِهِمْ) دون أن يشعروا بذلك و بذلك يكونوا قد عادوا الى بلادهم و أبيهم ببضاعتهم و الطعام الذي أخذوه منا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى يرجعون الى بلادهم بها خوفا من أن لا يكون لديهم غيرها فلا يستطيعون العودة مرة أخرى.
و يحتمل أن يكون المراد لعلهم يرجعون الينا اذا وجدوها في متاعهم تحرجا من أخذها .
