الفصل الثالث
(13 درس)
المشهد الأول (من الآية 36 الى 38)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
التفسير
دخل يوسف السجن و جذب الأنظار اليه بصلاته و صدقه في الحديث و صلاحه و عطفه على زملائه و سماعه لشكاوى المهمومين الى ان استأنس به أهل السجن من المسجونين و السجانين. ثم كان قدر الله و حكمته أن (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) و هما ساقي الملك و خبازه و لما صارا قريبا منه و عرفا ما اشتهر به في السجن من الصلاح و الأمانة و صدق الحديث و كثرة العبادة و معرفة التعبير تآلفا به و أحباه حبا شديدا و ذات يوم قص كل منهما رؤيا رآها في منامه على يوسف عليه السلام رجاء معرفة تأويلها منه، (قَالَ أَحَدُهُمَا) و هو ساقي الملك (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) أى أعصر عنبا (وَقَالَ الْآَخَرُ) و هو الخباز (إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) ثم قالا (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) أى أخبرنا بمعنى هذا الذي رأيناه في منامنا ، ثم قالا معللين السبب في اختيارهما له (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أى الذين عرف عنهم الاحسان و الجود و الأمانة و صدق الحديث و كثرة العبادة و علمهم بتأويل الرؤيا، ثم ينتهز يوسف هذه الفرصة التي أتت اليه ليبث في السجن و السجناء العقيدة الصحيحة حيث أنه لا ينشغل حتى و هو في السجن عن تصحيح العقيدة الفاسدة و بيان الأوضاع الفاسدة للحكام الأرضيين الذين جعلوا الناس يخضعون لهم الى أن أصبحوا فراعين و يلاحظ هنا أن وحى الرسالة جاءه بعد دخول السجن كما أن وحى الالهام جاءه بعد القائه في غيابة الجب فقال فبدأ بكسب ثقتهما (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) و هذه أولى علامات الصدق و بداية درجات كسب الثقة و هى الاخبار عن الغيب بالنسبة للطعام و يصير المعنى : أنني سوف أخبركما لا عن تأويل ما رأيتماه فقط بل سأخبركما أيضا عن أوصاف و كمية ما يأتيكما من طعام قبل الاتيان به و يشير هنا اشارة خفيفة الى توحيد الله حيث يقول (تُرْزَقَانِهِ) و هذا الاخبار هو (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) و ليس من باب الكهانة و العرافة و التنجيم انما هو من تعليم ربي لي و وحيه الى منه ثم استمر مواصلا ليبيت لهما سر تعليم الله له ذلك اذ قال (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) أى اني تبرأت من ملة الكافرين الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و الترك هنا هو ترك اعراض وهو الذي لم يلامس صاحبه الشرك قط و ليس ترك انتقال و هو الايمان بعد الكفر ، ثم يمضي يوسف و يقول (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) و هى ملة التوحيد الخالص الذي لا يشرك صاحبه بالله شيئا و الايمان بالله و اليوم الآخر ، و أعرضت عن طريق الضالين و هجرت طريق الكفر و الشرك و الضياع حيث أنه (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أى ما يصح أو يجوز لنا أن نشرك بالله شيئا مما يشركه الناس مع الله تعالى اذ كله ضلال سواء كان قليلا أو كثيرا، ظاهرا أو خفيا. و هذا الابعاد عن الشرك هو (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا) و انعامه بنا (وَعَلَى النَّاسِ) كذلك حيث أننا مكلفون باعلامهم و ابلاغهم و دعوتهم الى التوحيد (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) لا يعرفون هذا الفضل و هذا الانعام علينا نحن معاشر الأنبياء و عليهم كذلك و لذا فهم (لَا يَشْكُرُونَ) الله على هذه النعم و على ارسال الرسل اليهم ليرشدوهم الى ما فيه انقاذهم .
و من هنا نستنتج هذه الدروس:
الدرس الأول:
أثر القدوة و السلوك أقوى كثيرا من أثر الكلمة و الموعظة فقط دون قدوة تؤازرها و سلوك يؤكدها.
الدرس الثاني
في كل محنة ظاهرة منحة باطنة، فلا ينبغي أن يجزع الانسان لأى شىء يصيبه بل عليه أن يصبر و يحتسب فهو لا يدري ماذا يخبىء الله له وراء هذا الابتلاء.
الدرس الثالث:
يجب على الداعية اذا استفتاه فاسق أو جاهل أن يقدم له الارشاد و النصيحة أولا ثم يدعوه الى ما هو أولى به ثم يفتيه فيما سأل عنه.
الدرس الرابع:
تاويل الرؤيا و المعرفة ليست من الكهانة و التنجيم كما يفعل أهل هذه الزمان بل هى بوحى يوحى من الله سبحانه و تعالى.( كثرت برامج تعبير الرؤيا بالفضائيات فلابد أن تعلم أن من شروط تعبير الرؤيا صلاح المعبر لها أما ما نراه من علماء سوء يجلسون مع مذيعات متبرجات ويجلس ليفتي الناس فهذا لا ينبغي أن يؤخذ بكلامه لأنه جهل أنه في مجلس مع امرأة متبرجة وهو بجلوسه معها مع عدم إعلانه الإنكار عليها فهو يقرها علي فعلها هذه الكبيرة…فهل هذا من الصالحين اللذين يؤخذ بفتواهم ؟؟؟.)
الدرس الخامس:
المعرفة تأتي بعد ترك و هجر الكافرين و اتباع طريق المهتدين.
الدرس السادس:
طريق الأنبياء واحد و لا خلاف في أصول العقيدة و لذا فاتباعهم واجب و الأخذ عنهم فلاح.
الدرس السابع:
الطعام و قياسا عليه كل شىء ليس من صنعنا و لا من عملنا بل نحن نأخذ بالأسباب فقط أما النتيجة و الفضل فمن الله تعالى و لذلك يجب رد الفضل لله تعالى في كل نعمة.
الدرس الثامن:
أكثر الناس لاهون عن هذا الفضل و لذا فهم لا يشكرون و لا يردون الفضل لصاحبه و هو الله.
الدرس التاسع:
ان كنا نريد دوام الفضل و النعمة من الله فينبغي أن نكون من الشاكرين له وحده.
الدرس العاشر:
عالج يوسف عليه السلام مفهوما خاطئا يتعلق بالكثرة التي يعتز بها كثير من الناس حيث ان الكثرة ليست دائما على صواب أو دليل على الصواب.
المشهد الثاني (من الآية 39 الى 42):
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42(
التفسير:
بعد أن هيأ يوسف عليه السلام نفسية الفتيين و عقليتهما للسماع و الفهم و القبول نجده قد أقبل عليهما و تلطف معهما أكثر و أكثر و تقرب اليهما اذ قال لهما( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) أى يا صديقى في السجن ، ثم بين لهما بكل وضوح اهتزاز أساس عقيدتهما و فساد أوضاعها و مفاهيمها و تصوراتها اذ قال لهما (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ؟!! أى أخبراني بربكما أيهما هو الموافق للفطرة السليمة النقية المستقيمة؟ أن يكون لهذا الكون اله واحد لا شريك و لا ند و لا معارض كامل الحرية و التصرف فيما خلق و فيمن خلق؟ أو أن يكون هناك آلهة متعارضون متشاكسون مما يؤدي الى فساد هذا النظام الكوني البديع؟، ثم نكر عليهم ما يعبدون من دون الله الواحد القهار ببيان أنهم و آباءهم هم الذين اصطنعوا ما يعبدون و هم الذين أطلقوا عليها أسماء الآلهة اذ قال (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) أى لا حجة لكم في عبادتها من دون الله و هنا بين لهم يوسف بشكل واضح لا خفاء فيه فساد معتقداتهم ، ثم بعد ذلك يقولها بشكل صريح و واضح (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أى ان الحكم لا يكون الا لله اذ هو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته ، (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أى ان العبادة لا تكون الا لله و العبادة هى بالمعنى العام الشامل و نعني بذلك الاذعان و الخضوع لله وحده و اتباع أمره وحده و على هذا فالحكم لله وحده و العبادة لله وحده (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) نعم ،هذا هو الدين الذي ينبغي اتباعه و لا تجوز مخالفة أحكامه و شرائعه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) و لأنهم لا يعلمون فهم به جاهلون و من جهل شيئا عاداه! ومن هنا فهم في عداء مع الخالق و المخلوق ، مع الحق و أهل الحق !
و هكذا يكون يوسف عليه السلام قد بلغ أقصى غايته من الدرس الذي ألقاه على الفتيين اذ يقول لهما بكل عطف و مودة مرة أخرى (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) يعيد على مسامعهما هذا النداء الموحى بالمحبة و الصداقة و كأنه يستفيقهما من تفكير قد استغرقهما و في نفس الوقت يؤكد على حبه لهما و اشفاقه عليهما ثم يقول (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) و هوالذي رأى أنه يعصر خمرا و قد أبهمه و لم يعينه لئلا يحزن الآخر (وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) و هو الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا ، ثم أعلمهما أن ذلك واقع لا محالة فقال (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أى اختلى به بعيدا عن زميله و طلب منه أن يذكر قصته عند الملك و ذلك حتى يعرف الملك قصته فتظهر براءته فيخرج من هذا السجن الذي ألقى فيه ظلما.
و لكن لم ينفذ الذي نجا منهما وصية يوسف بعد أن خرج من السجن و نسى أمر يوسف كله (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) و لو وعى درس يوسف لتذكر ربه و لو تذكر ربه لذكر قصة يوسف للملك (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) أى مكث يوسف حبيسا في السجن بضع سنين و هى مدة من الزمن يقال أنها سبع سنين.
و من هنا نستنتج هذه الدروس:
الدرس الأول:
وجوب ترفق الداعي مع المدعو و التحبب و التودد اليه مثل تكريمه بما يليق به و لا يعد نفاقا له .
الدرس الثاني:
جواز الأخذ بالأسباب و لكن دون تعلق أو اعتماد على هذه الأسباب بل يكون التعلق و الاعتماد على مسبب هذه الأسباب و هو الله سبحانه و تعالى.
المشهد الثالث (من الآية 43 الى 46)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44 (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46(
التفسير:
كان ملك مصر في هذا الوقت من الهكسوس كما يقول المؤرخون و قد رأى هذا الملك رؤيا أهمته و أخافته و لذا فقد جمع الكثير من أفراد الحاشية و الكهنة و العرافين طالبا منهم تأويل رؤياه هذه.
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى) أى رأيت و عبر بالمضارع لاستحضار الصورة ،(سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَات) سبع بقرات سمان و رأى سبع بقرات أخرى مهازيل عجاف جائعات يأكلن السبع بقرات السمان، كما رأى في نفس المنام سبع سنبلات خضر و سبع سنبلات أخرى يا بسات، و لم يفهم الملك معنى هذه الرؤيا و لذلك فقد جمع حاشيته و العرافين و الكهنة و قال لهم
(يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أى أفيدوني بمعناها ان كنتم تجيدون تعبير الرؤيا ، و اجتمع الملأ و تفكروا و تشاوروا و لم يدركوا لها معنى و لا مغزى (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) أى هذا الذي رأيته هو من وسوسة الشيطان أو من حديث النفس و بالتالي فهذه الرؤيا باطلة فليس لدينا تفسير لها و لذا قالوا (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) .
(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أى تذكر بعد فترة من الزمن و نطق الفتى الذي كان بصحبة يوسف عليه السلام ، تذكر يوسف و ما وصاه به و ما هو عليه من العلم الحقيقي بتأويل الأحلام و الرؤى، فلم يسكت و نطق قائلا (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أى أنا أعرف من ينبئكم بتأويل هذه الرؤيا ثم سارع قائلا (فَأَرْسِلُونِ) أى أرسلوني اليه لآتيكم من عنده بالخبر اليقين و يلاحظ أنه لم يصرح باسمه لهم حتى لا يرسلون غيره و يسبقه بهذا الفضل عند سيده و مليكه، و لشدة حاجة الملك لفهم الرؤيا فقد وافق على ارساله و ذهب الساقي الى السجن و قال له (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أيها البليغ في الصدق الذي لم يعرف عنه كذبا ، أيها الصادق في تأويل الرؤيا (أَفْتِنَا فِي) هذه الرؤيا و قصها عليه بنفس الألفاظ و الحروف التي حكاها الملك (فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) أفتنا و أفدنا في هذه الرؤيا (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) الذين ينتظرونني بفارغ الصبر و كثير الشك من أن أعود اليهم بما وعدت (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أى راجيا أن يعرفوا الحق في أمر هذه الرؤيا بدلا من وصفها بأضغاث أحلام، و راجيا كذلك أن يعرفوا فضلك و مكانتك فيعرفوا قصتك و تظهر براءتك.
و من هنا نستنتج هذا الدرس:
أن الرؤيا الصحيحة الحق ممكن يراها الكافر لكن نادرا.
