المثقف عند إدوارد سعيد ـــ سليمان أوصمان
تعتبر قضية المثقف من أكثر القضايا إثارة للجدل والنقاش، وأكثرها تعقيداً وتشعباً نظراً لاختلاف وجهات النظر حول ماهية المثقف وحقيقة وجوده، ولاتساع المساحة التي من المفترض أن يعمل فيها ويؤثر على القوانين الحاكمة لتلك المساحة باعتباره يشكل، بحد ذاته، قيمة معرفية وفكرية.
ورغم انشغال المفكرين والمؤرخين با لمثقف على اختلاف تياراتهم ومذاهبهم، وتخصيص كتب وأدبيات عديدة لتحديد مفهوم المثقف ومهامه، إلا أنه ما زال موضوع الصراع، الدائر بين الأوساط الثقافية والفكرية وخاصة بين التيارات الفكرية التي قدمت المثقف في صور عديدة تبعاً للأيديولوجية التي يؤمن بها أتباع هذا الفكر أو ذاك، ومنهم من أطلق عليه تسميات عديدة كالمثقف العضوي أو الحقيقي أو الزائف أو التقليدي أو التنويري، وغير ذلك من التعريفات التي تهدف جميعها إلى كشف حقيقة المثقف وقد اختلف المفكرون حول هويته؛ كما هو عند أنطونيو غرامشي الذي تساءل عن هذا المثقف: "هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية مستقلة قائمة بذاتها، أم أن لكل طبقة اجتماعية فئة متخصصة من المثقفين "ولكنه يجيب "بأن المسألة معقدة بسبب تنوع الأشكال التي تتخذها العملية التاريخية، الحقيقة المولدة لمختلف فئات المثقفين" ويتساءل إدوارد سعيد" هل المثقفون فئة كبيرة من الناس، أم نخبة رفيعة المستوى وضئيلة العدد إلى أبعد حد؟!". ولعل بول جونسون هو الآخر قدم توصيفاً دقيقاً للمثقف في كتابه "المثقفون" الذي تناول حياة مجموعة من المثقفين أمثال (جاك روسو-بول سارتر-جورج)، حيث يقول: "لأول مرة في تاريخ الإنساني وبثقة كبيرة وجرأة متزايدة نهض أناس ليؤكدوا أنهم قادرون على تشخيص الأسقام بالعقل فقط، والأكثر من ذلك أنهم يستطيعون استنباط صيغ تمكنهم من تعديل عادات البشر الأساسية إلى الأفضل، وليس بناء المجتمع فقط". كما ميز لنا غرامشي بين المثقف العضوي، وغير العضوي وارتبط تقييمه للمثقف من خلال مقدرته على أن يتصل بالجماهير الصاعدة، أو عدم مقدرته.. في هذه الحالة بتبين المثقف العضوي من المثقف الزائف.
إن إدوارد سعيد، الذي ظهر بمظهر المثقف المسؤول، وأسهم في النقد الثقافي والفكري، لم يقبل أن يتحول إلى مجرد مهني في المجتمع يقوم بوظيفة محددة، أو كعضو في طبقة ما، أو أحد الوجوه في تيار اجتماعي ما ولكنه رفض هذا المبدأ بشدة، وأخذ يهتم بالوظيفة النقدية للمثقف في المجتمع، وأراد أن يكون هذا النقد نقداً عقلانياً وعلمياً، لأن المثقف في رأيه "هو ذاك المتمتع بصفة التمثيلية.. إنسان يمثل بوضوح وجهة نظر ذات طبيعة ما، ويعبر بجلاء لجمهوره عن تلك الأفكار التي يمثلها برغم كل أنواع العوائق "ولأن كان المثقف من وجهة نظر إدوارد سعيد كائناً عاقلاً ووهب ملكة عقلية لتوضيح موقف ما، أو رأي ما فلابد أن يثير حتى القضايا التي تدور حولها بعض الإشكاليات والملابسات، أو التي تعتبر في بعض الأوقات من المحرمات. في حين أن مهمة المثقف من وجهة نظر نعوم تشومسكي، وهو أحد رواد علم اللسانيات في الولايات المتحدة الأمريكية، وصاحب كتاب "السلطة الأمريكية والمثقفون الجدد". هي أن يكشف آليات الخداع الذي ينطوي عليه الخطاب السياسي وأن يفضح الكذب الذي يستنبطه.
وبما أن المثقف جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي المجتمع وعضو فاعل في مؤسساته وأجهزته يترتب عليه مهام ووظائف عديدة وكما يقول إدوارد سعيد فإن نشاطه يتركز في إعلاء شأن حرية الإنسان ومعرفته ولعله أي إدوارد سعيد يرى أن وظيفة المثقف يجب أن تكون معارضة الوضع القائم في زمن الصراع وتأييد المجموعات المهمشة التي تتعرض للظلم والإجحاف أي تلك المجتمعات غير الممثلة التي تحتاج صوتاً يمثلها ويعلن وضعها للعالم.
وعندما ينطلق سعيد من مهمة هذا المثقف، فإنه يضع نفسه أمام تلك المجموعات المهمشة ومن موقع المثقف المؤمن بقضاياهم لأنه يحاول تعزيز قضية العدل والحرية، وهذا ما حاول تحقيقه عن طريق نضاله المستمر في الغرب ومن خلال كتاباته النقدية التي اعتبرت الأكثر جدلاً بين القراء وخاصة كتابه "الاستشراق".
لقد كان إدوارد سعيداً نموذجاً للمثقف الحق الملتزم دوماً بأمهات القضايا سواء ما كان متعلقاً بمصير مجتمعه أو ما كان متصلاً بالمجتمع الإنساني قاطبة، وأنموذجاً للمثقف الحر والمغامر، ورمزاً من رموز النخبة الثقافية العالمية لأنه استطاع وسط هذا الكم الهائل من المفكرين والمثقفين أن يؤسس لنفسه ثقافة خاصة به وأن يدافع عنها أمام خصومه في الغرب حتى أصبح دفاعه عن قضية شعبه الفلسطيني جزءاً من دفاعه عن قضية الإنسانية كلها في العيش بحرية وسلام.