المفاهيم الأساسية للبنيوية ـــ دراسة: د.يوسف حامد جابر
إن أية فعالية معرفية لا بد أن تستند في تشكيلها وتحديد خصائصها والإطار العام لها إلى أسس تعطي هذه الفعالية سماتها العامة، وتعمل على تجذير محتواها وتعميقه، كما تسهم في تنظيم حركتها وعلاقاتها. والبنيوية باعتبارها منهجاً نقدياً شاملاً، أو لنقل طريقة بحث في مكونات الواقع وكشف علائق هذه المكونات وتفاعلاتها، تطمح لكي تسجل إضافة حقيقية في مضمار المعارف الإنسانية، وهي بذلك، تستند إلى مفاهيم أساسية تحدد طبيعتها ومنطلقاتها، وترسم حركتها ومساراتها.
ويمكننا أن نجد ثلاثة مفاهيم أساسية، تشكل في علاقاتها وتفاعلاتها الإطار العام للبنيوية، هي: البنية، النظام، الوظيفة.
أولاً: البنية:
لم تنل أية ظاهرة معرفية من الاهتمام والدراسة قدر ما ناله مفهوم البنية في القرن الحالي، حيث أصبح هذا المفهوم يحتل مكان الصدارة في مختلف الدراسات الإنسانية الحديثة، سواء كانت هذه الدراسات نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو لغوية أو رياضية وغيرها. وأصبحنا نجد الباحثين العاملين في إطار هذه المفهومات يتحدثون عن بنية نفسية وأخرى رياضية ومنطقية وثالثة لغوية.. الخ.
مما يشير إلى أن مفهوم البنية لم يعد يقتصر على الدراسات اللغوية وتشعباتها وإنما امتد ليشمل مختلف العلوم الإنسانية دون استثناء. وإن كان هذا المفهوم قد انطلق بالمستوى الذي نراه من خلال البحوث الجادة المكثفة والمعمّقة في علوم اللغة وتفريعاتها، والتي اغتنت بها مؤخراً، الدراسات الأدبية بمختلف فروعها واتجاهاتها. حتى إننا نرى أيضاً علماء اللغة يتحدثون عن بنى صوتية وأخرى تركيبية وثالثة دلالية. ولكل من هذه البنى الكلية بنى أخرى فرعية، منها ما يتعلق ببنية المفردة، ومنها ما يتعلق بالبنية الوظيفية.. الخ.
وسنحاول، هنا، عرض مفهوم البنية كما فهمه علماء اللسانيات والبنيويون.
يرى عالم النفس السويسري "جان بياجيه" أن البنية (نظام تحويلات له قوانينه من حيث إنه مجموع، وله قوانين تؤمن ضبطه الذاتي"(1). فالبنية هي علاقات العناصر الداخلية في إطارها، ودخولها في نظام هو الذي يحفظ لها استقرارها، ويضمن لها حركتها وتفاعلاتها داخل النظام ذاته، ويتيح لها أن تتوازن وتتعالق مع بنى أخرى تحكمها أنظمة خاصة بها. ويمكننا أن نكتشف طبيعة هذه البنية بنتيجة التحليل الدقيق لموقع العناصر التي تتشكل منها البنية، ولطبيعة العلاقات التي تقيمها حركة هذه العناصر. وبقدر النشاط الفعال الذي تمارسه هذه العناصر بدخولها في علاقات بعضها مع بعض، بقدر ما تمتلئ البنية غنى وحيوية. وهذا ما أشار إليه "بياجيه" عندما قال: "تبدو البنية مجموعة تحويلات، تحتوي على قوانين كمجموعة (تقابل خصائص العناصر) تبقى أو تغتني بلعبة التحويلات نفسها، دون أن تتعدى حدودها أو تستعين بعناصر خارجية"(2).
إن العناصر المشكلة للبنية محكومة دائماً بقوانين صارمة ترسخ نظام هذه العناصر، وتضفي على هذا النظام خصائص كلية. والبنية لا يمكن التعرف إليها إلا من خلال العلاقات التي تحكم عناصرها ذاتها، وليس من خلال هذه العناصر منفصلة. وهذا ما يؤكد ضبط البنية استناداً إلى حركتها الذاتية وإلى تحولاتها. فالتحولات لا توجد أبداً إلا عناصر تنتمي للبنية ذاتها، وتخضع لقوانينها وتحافظ عليها، ولا تعود إلى ما هو خارج حدودها. وبهذا المعنى نجد أن البنية تنغلق على ذاتها. وهذا ما دفع "لالاند" لكي يقدم في معجمه تعريفاً للبنية يؤدي إلى الفهم المشار إليه، إذ يقول: "إن البنية هي كل مكون من ظواهر متماسكة يتوقف كل منها على ما عداه، ولا يمكن أن يكون ما هو إلا بفضل علاقته بما عداه"(3). وهذا التعريف يصح على جميع البنيات مهما كان نوعها.
وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات بين البنيويين وعلماء اللسانيات حول تصور البنية ومعرفة نظامها وخصائصها، غير أنهم يتفقون حول الخطوط العامة التي تندرج البنية في إطارها، بمكوناتها وعلاقاتها. حيث نجد عالم اللسانيات "أنطوان مييه" يعرّف الجملة قائلاً: "يمكن تعريف الجملة على أنها مجموعة أصوات تجمع بينها علاقات قواعدية، وهي مكتفية ذاتياً ولا تتعلق بأية مجموعة أخرى قواعدياً"(4) فالجملة، هنا، بنية قادرة بعلاقاتها الذاتية أن تستمر وتتواصل وتتفاعل بطريقة تحفظ لها فعاليتها. وإن كان (مييه) ينبه إلى الشكل المادي للجملة بكونها مجموعة أصوات، والتي تعني في الأصل مجموعة ألفاظ، أو مجموعة حروف، تشكّل الكلمات التي تشكل بنية الجملة ذاتها.
وقد تبع، فيما بعد "بلومفيلد" خطأ أستاذه "مييه" وأعطى تعريفاً للجملة يتقاطع مع تعريف هذا الأخير، بالمستوى الذي نسعى لإظهاره. حيث يقول: "إن كل جملة هي تركيب لغوي مستقل لا يحتويه تركيب لغوي أكبر بموجب علاقة قواعدية معنية"(5) فالجملة مكوّن البنية الأساس، واستقلاليتها يؤكد قدرتها على الثبات والتواصل داخل أطرها الخاصة، وداخل قوانينها الخاصة أيضاً.
ثم نجد زعيم حلقة كوبنهاجن الألسنية "هييلمسليف" يشير إلى أن "البنية كيان خاص ذات ارتباطات داخلية"(6) وهذا ينفي عنها أيضاً أية علاقة مع عناصر خارجية لا تنتمي إليها. أو لا تنضوي في نظامها. وهذا ما دفع "هييلمسليف" للقول باستقلالية البنية. وهذه الاستقلالية تؤكد على أن عملية تحليلها يجب أن تتم من خلال علاقات عناصرها دون أية اهتمامات خارج هذا الإطار. وهذا ما يدفعنا إلى الحديث عن خصائص البنية التي تسمح لها بالاحتفاظ بقدراتها الذاتية داخل نظامها الداخلي المحكم(7).
خصائص البنية:
إن البنية تميزها خصائص ثلاث: الكلية، التحولات، الضبط الذاتي (التحكم الذاتي).