بقية الفصل الثالث
[center]المشهد الرابع (من الآية 47 الى 49)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49(
التفسير:
لم يعاتب يوسف الفتى على نسيانه له و اهماله لسنوات وصيته ، بل ان الفتى لم يأت الا لمصلحته هو عند الملك و رغم كل هذا فقد فسر الرؤيا مباشرة حيث (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) أى ازرعوا الأرض بأنواع النباتات سبع سنين متواليات بجد و اهتمام و كلما زرعتم (فَمَا حَصَدْتُمْ) منه في كل عام (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) أى اتركوه في سنبله و هى أفضل طريقة لحمايته من السوس و أصون طريقة لحفظه (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) في تلك السنين فاستخرجوه من سنبله و أعدوه خبزا لتأكلوا منه و لا تسرفوا فيه خلال تلك السنوات السبع المتواليات و هذا هو تأويل السبع بقرات السمان ، و أكمل قائلا (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) أى بعد السبع سنوات السابقة تأتي سبع سنوات ماحلات ممحلات لا تنبت الأرض فيها شيئا و نظرا لذلك فان الناس لا يجدون ما يأكلونه فيهن الا مما أنتجته الأرض في السنوات السبع السابقة و حصد و ترك في سنبله. و لذلك قال (يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) أى مما تحفظتم عليه قبلا (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ)فلا يبقى الا القليل الذي تتركونه في الحصون.
و بهذا يتضح من هذه الرؤيا أن البلاد مقبلة على أزمة اقتصادية شديدة و مجاعة مخيفة لا ينقذ منها الا الحكمة الشديدة في ادارة البلاد ابان هذه الأزمة ، و لم يكتف يوسف علي السلام بتفسير ما طلب منه بل انه و بوحى من الله بشر الملك و الناس بالمخرج من هذه الأزمة و بالفرج من هذه الشدة اذ قال (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أى بعد هذه السنوات الأربعة عشر يأتي (عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) فيأتيهم الرخاء و الرزق الواسع بعد الشدة و المجاعة (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أى يصلون الى حد فيه تزيد عندهم الفاكهة لدرجة تجعلهم يعتصرونها للشرب و للحفظ.
و بذلك يكون يوسف عليه السلام قد وضع خطة زراعية اقتصادية تموينية لانقاذ البلاد من أزمة طاحنة قادمة قريبا.
و من هنا نتعلم هذه الدروس:
الدرس الأول:
بذل العلم بلا مقابل فلم يقل يوسف عليه السلام أخرجوني من السجن أولا ثم أخبركم معنى الرؤيا.
الدرس الثاني:
اهمية التخطيط في كل شىء، في الصغير و الكبير ، للأفراد و الجماعات، للبيوت و المؤسسات و الدول بصفة عامة على أن يكون التخطيط في الأخذ بالأسباب المأمور بها شرعا فقط.
الدرس الثالث:
لكل غاية شريفة وسيلة نظيفة تؤدي اليها و ما لم نعرف الوسيلة و نحدد الغاية و نوضح الطريق الموصل بين الغاية و النتيجة فلن نصل الى نتيجة صحيحة لأن غياب التخطيط يؤدي الى التخبيط أو التناقض .
المشهد الخامس (من الآية 50 الى 53)
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)
التفسير:
من الطبيعي أن يذهب الرجل الى الملك و حاشيته ليخبرهم عما قاله يوسف عليه السلام و من الطبيعي أنهم حينما سمعوا هذا التأويل عرفوا أن الأمر جد خطير و من الطبيعي أنهم أدركوا أن صاحب هذا التأويل ذو علم واسع لا يستغنى عنه في حالى الشدة و الرخاء.
(وَقَالَ الْمَلِكُ) حينما سمع تأويل الرؤيا على هذا النحو البديع العجيب (ائْتُونِي بِهِ) أى أحضروا لي صاحب هذا التأويل ، و بالتالي ذهب الرسول الملكي الى السجن و لم يبين القرآن هل هو الساقي أم غيره و بلغ يوسف بالأمر(فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ) ماذا فعل يوسف؟ هل فرح لأنه سيخرج من السجن؟ كلا و لكنه بكل ثقة و صبر و يقين (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) أى عد الى سيدك الذي أرسلك (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أى اطلب منه أن يستفسر و يسأل و يحقق في موضوع النسوة اللاتي قد قطعن أيديهن في بيت امرأة العزيز لأني أريد أن تظهر الحقيقة حيث (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) و قد صرف عني كيدهن فلم يمسني سوء معهن و لا أحب أن آتي الملك و أنا متهم بقضية عوقبت عليها ظلما و طال سجني بسببها ، و هذا صبر و تريث عجيب من سجين طال انتظاره للخروج من ظلمات السجن ، كيف لا و هو نبيا وارثا لابراهيم عليه السلام الذي وصفه ربه بأنه (لأواه حليم)؟ و قد ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال "يرحم الله أخي يوسف لقد كان صابرا حليما و لو لبثت في السجن ما لبثه لأجبت الداعي و لم ألتمس العذر" و معنى الحديث هو أنه لو كنت أنا لبادرت بالخروج ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك. و في الظاهر أن هناك تعارض بين حديث النبي و بين موقف يوسف عليه السلام و لكن العلماء يقولون أن الحالة التي ذهب اليها النبي صلى الله عليه و سلم هى حالة حزم و هى الرخصة التي يباح استعمالها لمن لا يستطيع التحمل و هذا من روائع هذه الشريعة العظيمة الغراء و ما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم و جلد و هو الأنسب في أمر الدعوة و الدعاة فلكل موقف منهما ظروفه الخاصة.
عاد الرسول الى الملك ليخبره بطلب يوسف عليه السلام و يبدو أنه كان ملكا حكيما اذ لم يغضب من طلب يوسف كما لم يهمله بل اهتم به و على الفور أصدر أمرا بفتح باب التحقيق في القضية كما أمر باستدعاء النسوة و هن أطراف القضية و حضرن جميعا و بدأت الأسئلة (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ) أى ما أقوالكن في حقيقة موضوع مراودة يوسف؟ و كانت الاجابة مفاجأة على النحو التالي :
(قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ) أى قلن جميعا و لم تشذ واحدة منهن في اجابتها : معاذ الله (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) نفي صريح لما اتهم به يوسف ، سبحان الله مغير الأحوال و مصرف القلوب ! قالوها الآن و هن اللاتي سكتن يوم أن قالت امرأة العزيز أمامهن جميعا و في بيتها (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) فلم تنطق واحدة منهن لتنكر عليها هذا التجبر و الظلم و لم تتقدم واحدة منهن لتقول كلمة حق لتنقذ بها هذا البريء من السجن طوال هذه المدة فما الذي غيرهن الآن؟ انه الله سبحانه و تعالى مقلب القلوب و مصرف الأحوال قد أراد للحق أن يظهر و أراد للمغلوب الضعيف البريء الذي احتمى به أن ينتصر.
و لم تختص رياح التغيير بهن فقط بل شملت امرأة العزيزو يبدو انها سئلت هى الأخرى نفس السؤال لأنها صاحبة القضية و طرف رئيسي فيها حيث (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أى ظهر الحق و أصبح واضحا و قد يكون قولها ذلك بسبب اعتراف النسوة حيث لا مجال لانكارها كما يقول بعض العلماء و لكن الأحرى أنها قالت ذلك حبا في اظهار الحقيقة بعد ما عرفه هذا المجتمع في يوسف و عرفته هى كذلك بدورها و متابعتها لهذه الشخصية القوية المؤمنة الصالحة النقية الطاهرة ، بل انها أتبعت هذا الاعتراف بما هو أكثر منه صراحة في حق نفسها مما يؤكد تغيرها الى الأفضل حيث قالت (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) لقد تابت المرأة و صدقت في توبتها و أثبتت صدق يوسف في طهارته و براءته ثم استمرت في في كلامها الذي يشع منه نور الايمان و يؤكد صدق التحول (ذَلِكَ) أى قلت هذا الاعتراف الصريح (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أى لم أكذب عليه و لم أذكره بسوء و هو غائب ، ثم قالت و (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) أى لا يهدي الله الخائنين و لا ينفعهم كيدهم الذي يكيدونه بل ان الخيانة وبال على صاحبها و هذا كلام لا يصدر الا من قلب دخله الايمان و قالت (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) فان النفس تتحدث و تتمنى (إِنَّ النَّفْسَ) أى النفس عامة (لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) تأمر صاحبها به ، فمنهم من يطيعها و يرضخ لرغباتها و منهم من يتأبى و يقاوم انحرافها (إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ) الا نفسا رحمها الله و طهرها فهى لا تأمر صاحبها الا بخير، ثم أعلنت توبتها العلنية و استغفرت ربها و استرحمته و ختمت كلامها قائلة (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
و من هنا نتعلم هذه الدروس:
الدرس الأول:
وجوب الدفاع عن النفس و ابطال التهم التي تخل بالشرف سواء بسواء كوجوب اجتناب مواقفها و أن الداعية إلي الله لا يخرج إلا بعد تبرئة ساحته ليخرج إلي المجتمع نظيفا لدفع الغمز و اللمز من الناس .
الدرس الثاني:
مراعاة النزاهة و عفة اللسان في حق النسوة اذ لم يصرح يوسف بشىء من الطعن عليهن و ترك أمر التحقيق الى الملك معتمدا على الله تعالى في ظهور الحق.
الدرس الثالث:
اذا انتصر الباطل ساعة فدولة الحق الى قيام الساعة.
الدرس الرابع:
عدم التسرع في الحكم على الناس اذ العبرة بالخواتيم فقد تحولت امرأة العزيزمن فاجرة أولا الى مسلمة ثانيا ثم الى داعية ثالثا.
(تم بحمد الله الفصل الثالث)