دراسات الأدب المقارن في الجامعة ـــ بقلم: هنري غيفورد، ترجمة: فؤاد عبد المطلب
كيف يمكن للحس المقارن أن يربى وأن يوضع قيد الاستخدام في الدراسة المنتظمة للأدب في الجامعة؟
في البداية هناك القليل مما يجب قوله حول طبيعة الثقافة الأدبية ومجالها. ومن المفيد أن تتذكر ما كان يعنيه فيكو في كتابه "العلم الجديد" بمصطلح "فقه اللغة" -أي "دراسة كل ما يعتمد على الإرادة الإنسانية": اللغات والآداب والتاريخ والعادات الإنسانية. كل هذا غاية فقه اللغة كما فهمه الدارسون الألمان، ويوجد هناك علامات ودلائل على أن وجهة نظر مشابهة تعود اليوم. إن دراسة الأدب تتوضع ضمن محيط من الفلسفة والتاريخ على نحو متزايد. فقد كان من الصعب دائماً أن نضع حدوداً دقيقة حول هذا الموضوع، وخصوصاً أن حقولاً معرفية أخرى تلقي أكثر فأكثر بظلالها عبر الدراسات الأدبية. ولشرح أعمال الماضي العظيمة أو الأعمال المعاصرة من أجل هذه المسألة فإن ذلك يتطلب معرفة كبيرة متعددة الجوانب. وكل المقررات التي تُدرس في كلية الآداب لابد أنها تستفيد من علوم أخرى في وقت ما. ولابد للناقد المثالي أن يعرف أين يبحث عن التنوير في علم اللاهوت، والنظرية السياسية، والكيمياء، وعلم نفس الأعماق، وتاريخ العمارة، والفنون المرئية، والفلسفة، وعلم الجمال، والفن الشعبي وتاريخ التراث الشفوي، وعلم الطباعة. ولا توجد حدود لهذه الدراسة، وثمة طرائق جديدة تزودنا بإضاءات حول الموضوع تكتشف على نحو مستمر.
على كل حال سيفيدنا هنا تحديد الرؤية واعتبار دراسة الأدب في المقام الأول حقلاً معرفياً قائماً في حد ذاته، ويمكن أن تضيف الاهتمامات الأخرى إليه شيئاً ما، ولكن دون أن تتجاوزه إلى حد بعيد. إن الجامعات اليوم عندما تقوم بتعليم الأدب بوصفه حقلاً معرفياً مستقلاً فهي تقدم بذلك خياراً بين المدرسة الواحدة التي تعالج أدباً واحداً، أو المدرسة المقارنة التي تجمع بين أدبين أو أكثر، وعادة بهدف مقارنة الثقافة والتاريخ التي تحملها. أقترح في البداية أن ندرس موقع الدراسة المقارنة في كلية واحدة ما قبل التخرج، وبعد ذلك في الطريقة التي ستنفذ بها في مدرسة مخطط لها خصيصاً أن تجعل ذلك ممكناً. ثم سيكون لدي شيءٌ في هذا الفصل لأقولـه عن العمل المقارن على مستوى الدراسات العليا، وعلى كلا المستويين إما على شكل منهاج مقرر خاص وإما على شكل أبحاث فردية. وأخيراً أتمنى أن أقدم بعض الملاحظات حول المهمات الموضوعة أمام الدراسة المقارنة ككل، ليس فقط ضمن الإطار الجامعي، ولكن بعين تلاحظ التطور العام للأدب أيضاً.
أ-كلية واحدة ما قبل التخرج:
المثال الأولي هنا هو كلية تُدرس اللغة والأدب الإنكليزيين. -ولا يمكن أن تُدرّس الأعمال الكلاسيكية في الكلية الواحدة، التي تضم كالعادة أدبين، وعموماً في كليات اللغات الحديثة يُدرّس أدبان اثنان، مع أنه لأحدهما أن يُدرّس بشكل أعمق من الآخر. فكلا الطرفين الأعمال الكلاسيكية واللغات الحديثة تفيض بفرص للعمل المقارن (وحتى وإن لم تستفد هاتان المدرستان منها دائماً). لكن كلية للدراسة الإنكليزية يجب أن تنطلق لتكمل نفسها بنفسها، ويمكنها كما في كثير من الجامعات الإنكليزية أن توازن بين اهتمامات العصر الحديث واهتمامات العصور الوسطى ولو بصورة غير متناسقة. وبين فقه اللغة (بمعناه الأكثر تحديداً) والنقد (بمعناه الأكثر اتساعاً). ويوجد هناك باحثون أمثال دبليو. دبليو روبنسون الذي ناقش في "محاضرة إف. آر. ليفيز لعام 1965" أن كلية كهذه، حتى بدون مكوناتها الأقدم (موضوعات من قبل القرن الرابع عشر) يمكن أن تقدم "كياناً أصيلاً من المعرفة". وهذا هو جدل ليفيز نفسه الذي يجد له الكثير من المؤيدين. فهم يعتقدون بأن الدراسات الإنكليزية يمكن أن تكون مركزية وإنسانية، ويبين روبنسون الضعف الذي لا يمكن معالجته في كثير من الكليات المتعددة الأقسام التي تضم عدداً من الحقول الدراسية التي لا تمت إليها بصلة مباشرة. إن تأثيرها، كما يقول روبنسون، سيجعل من الطالب "معتمداً كثيراً على أساتذته ومحاضريه، ولا يجد في دراسة مبادئ نظام واضحة في حد ذاتها، فهو مقيد بضخامة جهله المحتم من اكتشاف نظام بنفسه" (عام 1965، ص14) ولهذا يفقد هذا الطالب فرصة مواجهة أستاذه، ولو لحين، كمساو له في مجال واحد من المجالات على الأقل.
والنقطة هنا صحيحة وهي بحاجة إلى أن تُدرّس ليس فقط بالنسبة للكليات المتعددة الأقسام، ولكن أيضاً للكليات التي تستخدم الدراسة المقارنة بحرية متضمنة عدة آداب أو أجزاء من عدة آداب دون أن يتيح أدب واحد من هذه الآداب معرفة عميقة به. على كل حال أنا أختار أن أؤجلها حتى نصل إلى كليات كهذه في القسم التالي. وفي الوقت الحاضر علينا أن ندرس ادعاء اللغة الإنكليزية بأنها تستطيع تقديم "كيان أصيل من المعرفة".
لا شكّ أننا نتعامل مع أدب واسع وذي قيمة عظيمة -أدب متميز لأنه يشمل على الأقل شكسبير. ولكن هل هناك أدب واحد كاف حتى النهاية في حد ذاته لتقديم تعليم حقيقي؟ نحن مضطرون أن نعترف: أن بعض أجزاء التجربة الأدبية الأوروبية قد دخلت الأدب الإنكليزي بصعوبة. ومضطرون أيضاً أن نقول لطلابنا إن أنواعاً من الكتابة قد تمت بشكل أفضل في مكان آخر، وإن بعض المؤلفين الإنكليز بحاجة لرؤية أشمل ومن منظور الأدب الغربي ليتم فهمهم وتقييمهم بصورة صحيحة. وعندما نصل في بحثنا إلى عصرنا الحاضر فإن ذلك يبدو واضحاً على نحو كاف. ويظهر هذا جلياً في كتاب جامع مختصر لكارل شابيرو "مفاتيح نثرية للشعر الحديث". ونظرة من خلال الدليل التاريخي المتسلسل في نهاية الكتاب تكشف كم من الكتب التي ألفت والأحداث التي وقعت خارج إنكلترا وأمريكا عملت على تشكيل الحركة الحديثة. والشيء نفسه صحيحٌ بالنسبة للرواية والدراما الحديثة.