وقد بينت الإحصائيات أن تسرب الاختصاصين إذا ما أخذ الآن من زاوية تكاليف تعليمهم فقط يكبد بعض الدول النامية من الأموال ما يزيد بمقدار الضعف على المساعدة الأمريكية التي تتلقاها هذه الدول في ميدان التعليم. فإذا أضفنا إلى هذا ما يساهم به هؤلاء الاختصاصيون في إثراء العالم الرأسمالي أدركنا من مِنَ الجانبين يقدم المساعدة للآخر العالم النامي أم العالم الرأسمالي؟ إن هذه العقول تلعب الآن بالنسبة للدول الرأسمالية الدور الذي كانت تلعبه ثروات العالم الجديد تحريك آلته الصناعية ومضاعفة قوته.
وأخيراً فلسنا من دعاة التحجر والانغلاق ونؤمن بأن أركان العالم قد تقلصت كثيراً بفضل أجهزة المواصلات والإعلام ولم تعد تربية الإنسان مقصورة على أسرته أو مدرسته أو المناهج التي تضعها بلاده، بل تساهم في ذلك ألوان من التأثيرات العالمية غير أن ما نتجه إليه هو أن يكون لنا إسهامنا في تربية أجيالنا وأن نكون قادرين على مجابهة الغزو الثقافي الاستعماري الذي يجتاح حياتنا ويواكب تدرج أطفالنا من دور الحضانة وحتى ما بعد الكليات إلى القرون العشرة التي سبقته، تمزقنا وتخلفنا وتغربنا الثقافي بل اتجهنا إلى لغتنا التي كانت لغة العلم في مرحلة من التاريخ، فسحبناها من ميدان التداول العلمي واستبدلناها باللغات الفرنجية ولا تزال المحاولات جادة لفرنجة كل شيء في حياتنا، وبعض الجامعات التي اجترأت على التعريب الشامل لكلياتها لا تزال تعامل معاملة المارقين وتعاقب على "جنوحها" بالصمت والتجاهل وما أكثر ما تخترع من مسوغات لذلك عندما لا تكون قضية التحرر الوطني الأصيل هي المحرك الأساسي لثقافتنا وتوجهاتنا.
إننا لا نتحدث هنا عن الحلم العربي الكبير بإنشاء الأكاديمية العربية الجادة التي تشرف على برامجنا التعليمية عبر تخطيط مبرمج شامل وتقوم بإصدار الموسوعات العلمية العربية التي تساهم في تكوين التجانس الثقافي القومي (18) وتقدم الحقائق العلمية الصحيحة للأجيال التي تبحث بصدق عن المعرفة فلا تجد ضالتها إلا في مكتبات الغرب وعبر دعايته التي تفتن في استغلال الفراغ الثقافي الذي نعاني منه وقبل أن نتحدث عن المجابهة الفعالة للتصدي علينا أن نحقق الخطوات الأولى في وحدتنا الثقافية فنحن لم نتوصل حتى الآن إلى منهج موحد في تعليم الأبجدية لأطفالنا، ولم نتفق على منهج موحد في تدريس التاريخ أو في البحوث الجامعية أو ميادين الإعلام. إن الهوة المتزايدة لاتساع بيننا وبين الأمم المتطورة تثير الخوف في قلوب أكثر المتفائلين، وكثير من الخطوات الثقافية التي قطعتها الأمم الأخرى منذ قرون لا يزال بالنسبة لنا حلماً بعيد المنال.
ونحن الآن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نسير في الطريق الممهد الداعي إلى الخمول والدعة وتعطيل فعاليات العقل ونؤمن بأن لا قبل لنا في التصدي فنقبل بكل ما يجيء به الغزو الثقافي، وهذا طريق سهل لا يكلفنا غير استقلالنا وكرامتنا، وإما أن نتنبه إلى ما نحن فيه من خطر فنتفق ونتكاتف ونتصدى معاً لهذا المظهر الخطير من مظاهر الاستعمار الجديد.
د. عماد حاتم
جامعة الفاتح
الهوامش
1- د. إسماعيل صبري مقلد. الاستراتيجية والسياسة الدولية. بيروت مؤسسة الأبحاث العربية 1979 ص 58.
2-في فصل "مزالق الشعور القومي" من كتاب "معذبو الأرض" يقدم فرانتز فانون تحليلاً معمقاً لمسلك البورجوازية الوطنية وتعاونها مع البرجوازية الاستعمارية في استعمار الشعب، ينظر: فرانتز فانون. معذبو الأرض ترجمة د. سامي الدروبي ود. جمال الأتاسي. بيروت دار العلم 1967 ص 114 –115 ويقدم ريني دوبستر حقائق مذهلة عن الوضع الذي كانت تعيشه بلاده بعد 165 من الاستقلال إذ أن "الحكم الوطني" أوصل البلاد إلى مستويات فاقت ما كان الاستعمار قادراً على إنجازه، فالأمية تشمل 89% من السكان ونسبة التعليم الثانوي 1.7% ومتوسط عمر الإنسان 23 سنة، ينظر ريني دوبستر. المرجع السابق ص 302
3-في مقال له حول الترجمة يذكر د. أحمد حسن مأمون أن تركية تصدر سنويا 1482 كتاباً في مجال العلوم والتكنولوجيا بينما لا تصدر الدول العربية مجتمعة أكثر من 500 كتاب فقط. ينظر د. أحمد حسن المأمون، لماذا نهمل الترجمة إلى العربية "العربي" العدد 268 مارس 1981 ص 62.
4-السلامي الحسيني. الجندي المجهول يموت اغتيالاً. مجلة "الدستور" لندن. العدد 1219 شباط (فبراير) 1982 ص 78.
5-يطبع بعض الناشرين الأمريكان الكتب المدرسية للمدارس المتوسطة وللجامعات في عدد من الدول الافريقية وكانت بعض الشركات تتأهب لإنشاء فروع لها في هذه الدول وقد باشر بعضها في تطبيق ذلك وقد أثنت الـ "أفريكا ربيورت" على هذه الظاهرة بقولها أن هذه الفروع تتمتع بإمكانيات كبيرة للغزو وهي تملك القوة البشرية والمال وتستخدم خبرة الشركة الرئيسية. وهكذا وتحت ماركة "صنع في أفريقيا" تحقق هذه الشركات لنفسها مكسبين –المال والتغلغل الأيديولوجي. ينظر: Africo –Report. November, 1970
6-عن أوزادوفسكي. الولايات المتحدة وأفريقيا 1977 ص 229 230.
7- The New York Times 24-XII-1962.
8- Africa, London, March, 1973, No. 19.
9- لا يزال بعض المؤلفين الأمريكان ينقمون على الهنود الحمر أنهم سفكوا دماء الفاتحين ظلماً وعدواناً: فكانت حروبهم مجرد ردة فعل، ويصرح وليم تيل شتورز بذلك في فصل "الفاتح" من كتابه هذا العالم الجديد – القاهرة دار نهضة مصر 1970) إذ يقول: كانت وحشية الهنود الحمر تستلزم الرد بالمثل" ص 163.
(10)- Z. Brzezinski, The Implication of Change for U.S. Foreign Policy, Washington, 1973, P. 3.
(11)- W. S. Freund. Unterentwicklung in Sstrukturalistischer Sich. “Aspekte der Entwicklungssoziologie”. Koln-Opladen, 1969, S. 519.
وقد أطلعنا على نظرة هذا المفكر وأمثاله في كتاب الاستعمار الجديد وأفريقيا في السبعينات. موسكو دار التقدم 1975 ص 304 –305، 307.
12-د. إياد القزاز. القوالب النمطية عن العرب في أمريكا، دراسات عربية السنة 11 العدد 5، 1975 ص
13-شاعت منذ سنتين أسطورة البطل الخرافي غرايندا يزر وصديقه كوجي وسفينته الساحرة ولقيت إقبالاً كبيراً من الأطفال. وأذكر أنني دخلت غرفة قتيبة وهو أحد الأطفال المعجبين بالبطل الأميركي فوجدته قد غطى جدران غرفته بصورة البطل وأصحابه ولما أبديت رغبتي لو كان في الغرفة صورة طارق أو صلاح الدين أجاب باستنكار: وهل تريد أن أعلق في غرفتي صورة لفارس يركب الحصان؟ أين الحصان من هذه السيارة الأمريكية. وتساءلت آنذاك ألا يمكن أن تكون شخصيات التاريخ العربي عصرية، وكيف استطاعت شعوب أخرى أن تقدم شخصياتها المجيدة القديمة دون أن تضطر إلى تصويرهم داخل السيارات الأمريكية؟
14-نظمت اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (اكوا) –الأمم المتحدة ندوة في هذا الموضوع وفيها بحثت الأسباب الضمنية لهجرة الكفاءات العربية ثم نشرت البحوث في كتاب بعنوان هجرة الكفاءات العربية. بيروت مركز الدراسات العربية 1981.
15- Jeune Afrique 19 –1 –1971.
16- الاستعمار الجديد وأفريقيا في السبعينات. المرجع السابق ص 323.
17-أدرك رجال التنوير في فرنسا أن أهم العناصر التي يمكن أن تساهم في تكوين التجانس القومي هو إصدار الموسوعة فبدؤوا العمل على إصدارها منذ حوالي القرنين ونصف القرن وكانت الموسوعة الإنجليزية قد صدرت قبل ذلك.
***
المراجع:
-د. عبد الجلال التميمي: دور المبشرين في نشر المسيحية بتونس. المجلة التاريخية المغربية. عدد جانفي 1975.
-الطيب العقبي: يقولون وأقول. الشهاب قسطنطينة، 18 فيفري 1926.
-عبد الكبير الفاسي: العلماء والطوائف بالمغرب. الشهاب. قسطنطينة 4 سبتمبر 1926.
-د.أسماعيل صبري مقلد. الاستراتيجية والسياسة الدولية. بيروت مؤسسة الأبحاث العربية 1979.
-فرانتزفانون: معذبو الأرض ترجمة. د. سامي الدروبي، د. جمال الأتاسي بيروت دار النصر 1967.
-د.أحمد حسن مأمون. لماذا نهمل الترجمة إلى العربية. العربي العدد 268 مارس 1918.
-السلامي الحسيني. الجندي المجهول يموت اغتيالاً. الدستور. لندن العدد 219 1 شباط 1972.
-أوزادوفسكي. الولايات المتحدة وأفريقيا 1977.
-وليم تيل شورز. هذا العالم الجديد. القاهرة. دار نهضة مصر 1970.
-الاستعمار الجديد وافريقيا في السبعينات موسكو. دار التقدم 1975.
-د.إياد القزاز. صورة الإنسان العربي لدى الأمريكيين. دراسات عربية السنة 11 العدد 8، 1975.
-د.إياد القزاز القوالب النمطية عن العرب في أمريكا –دراسات عربية السنة 11 العدد 5، 1975.
-هجرة الكفاءات العربية. بيروت. مركز الدراسات العربية 1981.
- lois Bertrand les cyclades, reue des deux mondes- janvier, fevrier- 1922.
- Maupassant- au soliel- paris, 1884.
- Africa report, November, 1970.
- The new york times 24- xii- 1962.
- Africa, London, march 1973, no. 19.
- Z. brzezinski, the implication of change for u.s.
- Foreign policy, Washington 1973.
- Jeune afrique, 19-1- 1971.