ولا نعرف بالضبط إلى أي عصر ترجع فتاة الجيشا في اليابان. ولكنها صورة، بل نسخة كاملة ودقيقة عن وظيفة باوبو. لقد كانت فتاة الجيشا مثقفة، رقيقة الحديث، يبدو غنجها عفوياً. وكانت مختصة بعلية القوم تماماً مثل باوبو. ترى لو كانت أمام باوبو امرأة غير ديمتر، فهل كانت تفعل ما فعلت؟ ما كانت-نظن- لتكلف نفسها حتى مشقة سؤال هذه المسكينة، نقصد المرأة العادية، عن سبب حزنها وكآبتها، وكانت مرت بها عبوراً من غير أن تتوقف. يبدو أننا نشعر بضخامة المأساة عندما تكون الشخصية رفيعة المستوى، ولا عجب أن أصر أرسطو على أن يكون أبطال التراجيديا من علية القوم، وحتى اليوم نقول أن موت الفقير راحة، وموت الغني حرمان.
وظيفة العالمة ما تزال قائمة، سواء أدتها سيدة أو سيدات، تماماً مثلما كان في قديم الزمان، إذ كنا أحياناً أمام عالمة مكتملة الفنون، وكنا أحياناً نرى وظيفتها توزع على فتاة الحانة والمغنية والعازفة.
ووظيفة العالمة هي عبارة عن نقل فن المسرحية من المكان العمومي إلى المكان الخصوصي، من بهو كبير جداً يملأ الجمهور مقاعده، إلى بهو يملأ عليه القوم مقاعده. وإذا كانت المسرحية أشبه بالمشفى فإن العالمة أِبه بعربة إسعاف خفيفة، سريعة الاستجابة.
كانت المسرحية اليونانية تعني الأداء والرقص والموسيقى وسرد النوادر أو المآسي، وعرض بعض معالم التاريخ ومنعطفاته. إننا نجد فيها كل طقوسية العالمة.
ولم تكن المسرحية اليونانية هي الوحيدة التي جمعت كل طقوسية العالمة، بل إن كل المسرحيات القديمة فعلت ما فعلته، فالمسرحية الهندية، التي تأخرت عن اليونانية، إلا أنها نمت نمواً مستقلاً عن التأثيرات الخارجية، كانت هي الأخرى تجمع كل هذه الصفات.
أثناء سيادة الروح الدينية في العصور الوسطى توقفت المسرحية القائمة على الجوقة والرقص والغناء والموسيقى, وحلت محلها المسرحية الدينية. ولكن في عصر النهضة، وما بعد حاول الأوروبيون العودة إلى الإغريق فلم يفلحوا تماماً، ولذلك ظهرت عندهم أنواع وأنواع من المسرحية مثل البانتومايم والأوبرا الباليه والبورلسك والفارس والديلارتي والدراما ومسرحية القناع والمسرحية الأخلاقية والمسرحية التاريخية والمسرحية الذهنية... أي أنهم، باختصار، لم يستطيعوا القيام بوظيفة العالمة مشتملة، فوزعوها على عدة فتيات. فلو جمعنا كل هذه الأنواع المسرحية لحصلنا على الوظيفة المتعددة والمتشعبة التي كانت تقوم بها المسرحية اليونانية، أو المسرحية الهندية.
وقد كان المؤلفون المسرحيون العرب في بداية نهضتنا أقرب إلى روح الدراما من الأوروبيين فقد أعادوا الجوقة وأدخلوا الغناء، أما في الأداء المسرحي أو عن طريق فواصل بين فصول الدراما. وقد وجدت التجارب المسرحية هذه إقبالاً جماهيرياً منقطع النظير. وعندما تخلى المسرح عن الغناء تقلص عدد المشاهدين إلى درجة كبيرة.
واليوم تعود المسرحية إلى استخدام ما كانت المسرحية القديمة تستخدمه، فقد عادت الجوقة وعادت الموسيقى وصار الرقص الاستعراضي في المسرحيات الحديثة ضرورة لا غنى عنها، فمسرحية مثل"الشعر" نجد فيها كل هذه العناصر، فهي بانتومايم وأوبرا وباليه. وقد وعى المسرحيون العرب المحدثون أهمية ذلك، فصرنا من الصعب أن نجد مسرحية لا ترافقها الموسيقى، حتى في المسرحيات الكوميدية. بل إن هناك محاولات لاستخدام الشعر، أو لغة قريبة منه، في الحوار المسرحي، فقد تبين أن الكلام الموقع خير من الكلام المتسيب من الإيقاع وأشد تأثيراً في المشاهد، أي أن المسرحية اليوم تسعى إلى استعادة حوار عريب مع سمارها وندماها. إن الكلام في هذا الفن يجب أن يكون"فنياً" ففي مجالس العالمة يختار الكلام اختياراً ليكون أوقع في النفس وأجذب للقلب وأحلى في الأذن. لا يجوز استخدام الحديث العادي الذي نجده في كل مكان. إن زاوية في شارع تقف فيها مراقباً، تمكنك من حضور عشرات من الفواصل المسرحية التي اشتهر بها دي فيغا. ولو كانت العالمة تتحدث مع سمارها كما تتحدث مع وصيفتها على انفراد لفشلت في أداء الوظيفة.
كانت الطقوس المقدسة للطبيعة، والتي منها نشأت المسرحية تقام في الهواء الطلق، في الكروم أو الحقول أو البيادر. كانت كلها منسجمة مع دورة الطبيعة بصورة عفوية. وهذا هو النموذج الأول للمسرح الذي ما تزال بذرته قائمة حتى وقتنا هذا. لكن مع الأيام شيدت المسارح الضخمة على التلال المنخفضة كمسرح أبيدوروس أو علقت على قمة جبل كمسرح سيجيستا. لا يوجد مسرح منخفض. لا يوجد مسرح في كهف. الكهوف مخصصة للطقوس السرانية التي ظهرت مأخراً.
وبعد أن أقيمت المسارح زينت وزخرفت وانبرى الرسامون يصممون الديكورات المناسبة، وتزاحم المؤلفون الموسيقيون لوضع الألحان الخاصة وتصميم الرقصات والأغاني التي تجسد أو تساعد في تجسيد الحدث المسرحي. وقد استحدثوا للمسرح الأدوات الميكانيكية المبتكرة. حتى أنهم اخترعوا آلة تجعل الممثل يطير في الهواء من غير أن يشعر المتفرج، أو تجعله يهبط من السماء(ديوزاكس ماشينا) ليحل عقدة المسرحية. وهذا ابتكار متقدم لم يصل إليه مسرحنا الحديث إلا في البلدان الغنية والمتقدمة علمياً.
خلاصة القول بهذا الصدد أن الإغريق قدموا كل ما يستطيعون لتطوير مسرحهم. لكن كل هذه الديكورات والموسيقى والآلات والحواجز والمداخل والمخارج التي أضافوها لم تلغ أبداً النموذج الأصلي الذي قدمته دورة الطبيعة. فالفكرة الأساسية ظلت مستمرة على الرغم من كل هذه الابتكارات، بل على الرغم من تشظي الأنواع المسرحية وابتكار أنواع جديدة. إنها كلها تتبع الأنماط الأولية التي ابتكرتها المخيلة البشرية.
وبالمثل فإن العالمة اليوم انتقلت إلى البارات والنوادي الليلية، لم تعد تؤدي وظيفتها على"الطبيعة" كبداية المسرح، أو كباوبوالتي كانت ترقص أمام ديمتر في الحقل أو في الطريق، أو كانت تعتلي صخرة لتؤدي حركاتها. وقد ابتكر العصر الحديث أشياء وأشياء لا حصر لها في تزيين البارات والنوادي والكباريهات. والمسامرون لم يعودوا محدودين يعدون على الأصابع. صاروا كثرة كاثرة. وقد درست الصالات دراسة نفسية، ووضعت- بناء على ذلك- الأنوار الملونة الخاصة واللوحات والتماثيل والبسط والمفروشات الأخرى. والعالمة الجديدة تخضع اليوم لتدريبات أشد بكثير من تدريبات عريب... لكن الوظيفة الترفيهية في صناعة الفرح ظلت واحدة، إذ يبدو أن هذه الوظيفة لا يمكن أن تتغير مهما تغيرت الأساليب والأدوات، ومهما بذل الفنانون من جهد لخلق صالة مثالية.
و"ست الصالون" هي الأخرى عالمة ولكنها مقتصرة على ناحية واحدة: التسامر بالأدب والفن والتاريخ، واتباع اتيكيت شديد الطقوسية. وهذه الناحية من وظيفة باوبو هي التي همشها العصر الحديث، ولذلك تلاشت الصالونات ولم نعد نسمع بها منذ زمن بعيد. إن"ست الصالون" في القرن العشرين لا تختلف عن شهرزاد في اقتصارها على ناحية معينة من أحاديث العشيات، إلا أنها تختلف عنها في الملبس والإتيكيت والاقتصار على رجال السياسية والأدب. الوظيفة واحدة، فالجميع من نمط أولي واحد هو نمط باوبو.
كانت العالمة ووصيفاتها يشكلن شبه فرقة، لكننا نشاهد اليوم فرقاً كبيراً تحيي الأسمار بدلاً من العالمة.
ولكن كل ما جرى ويجري من أجل تطوير الأدوات والأساليب لا يغير من الأمر شيئاً ما دامت الوظيفة واحدة هي.... تصنيع الفرح.
قد نتوهم أن هذه الفرق حديثة كل الحداثة... هذا صحيح إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الإضافات الزخرفية التي ساعدت عليها الإلكترونيات الحديثة, ولكن ثمة ظواهر قديمة تشير إلى أن صناعة الفرح لم تكن مقتصرة على العالمة، فإلى جانب العالمة سافو، وهي أعظم عالمة وصلتنا أخبارها، إذ أضافت إلى العزف والرقص والغناء والشعر والأدب، مهمة أخرى هي تربية الفتيات العذارى وتأهيلهن للزواج، نجد فرقاً مختصة بتصنيع الفرح. ومن هذه الفرق ما أطلقوا عليه"الباخيات" وهن أنصار ديونيسيوس، إله الخمرة والكروم. فكانت الباخيات يشربن الخمرة وينشدن الأشعار ويمارسن الرقص والإيقاع والموسيقى الصاخبة التي-على ماجاءنا- لا تستطيع أعظم فرق موسيقى الجاز أن تجاريها في الصخب. لكن هذه الفرقة وبقية الفرق كانت بدائية من حيث تصنيع الفرح، إذ كانت تقيم حفلاتها في الجبال أو في الأماكن العامة. وكن يلبسن زياً خاصاً إذا ما أزف موعد الاحتفال. وفي بعض الأحيان كن يرقصن رقصات داعرة وجنونية. وحتى احتفالات الربة ديمتر كانت تميل إلى شيء من هذا القبيل.
وحتى الآن هناك اختلاف حول أسبقية الباخيات على التقاليد الديمترية. وما جاءنا عن الأسرار الأليوسية يشير إلى حفلات فيها الكثير من آداب العالمة.
وإلى جانب نمط تصنيع الفرح هناك نمط تصنيع الحزن. وأصل تصنيع الحزن ينحدر من طقوس الشتاء، طقوس الموت والرحيل إلى العالم الآخر، مثلما إن تصنيع الفرح ينحدر في أصله من طقوس الربيع، طقوس البعث والقيامة.
ولكن من يقوم بتصنيع الحزن؟
إنه نفسه الذي يقوم بتصنيع الفرح. إن الباخيات أنفسهن يقمن بالمناحة على ديونيسيوس نفسه. ولكن هذه المرة في أوائل الشتاء، بعد أن تكون الكروم قد أقحلت وجفت الكرمة من ماء الخمرة، أي بعد أن يكون ديونيسيوس قد مات وغادر هذه الكروم التي ذوت حزناً عليه. وكانت الباخيات ينحن نواحاً صاخباً أيضاً، وينتهي موكبهن بفاجعة وهي"الضحية البشرية" أو الفارماكوس.
وهذه الوظيفة الثنائية للباخيات من تصنيع الحزن إلى جانب تصنيع الفرح ليست غريبة على الفكر اليوناني إذ نجد كثيراً منها لديهم، فالايرينات هن ربات الانتقام والعدالة يعاقبن كل من انتهك المحارم أو حاد عن الحق. ولكنهن في الوقت نفسه ربات الرحمة يساعدن كل مظلوم مهتضم الحق، وهذا شيء طبيعي، فالنقيض لا ينفي نقيضه بل يؤكده، فالانتقام عندما يكون من الظالم، فلابد أن تمنح الرحمة للمظلوم.
وبما أن العالمة قادرة على تصنيع الفرح فلاشك أنها قادرة على تصنيع الحزن. وربما كانت العالمة في هذه الأيام لا تقوم بتصنيع الحزن لناحية اقتصادية، وهو أن تصنيع الفرح أكثر زبائن وأدرّ ربحاً، فلا حاجة إلى الإنفاق على طقوسية الحزن، فهي تكلف الكثير ولا تدر إلا القليل. يبدو أن مثل هذه الوظيفة المزدوجة نعود إلى الأزمنة السحييقة، فنحن لم نعرف عن باوبو والعالمة الحديثة مثل هذه الوظيفة المزدوجة. لكننا نجد فرقاً خاصة تقوم بتصنيع الحزن. ويبدو أن الفرح خفة يمكن أن يؤديها الفرد، لذلك تكلفت العالمة بتصنيعه، أما الحزن فدعوة إلى التأمل ولذلك يحتاج إلى جهد جماعي. وما"المواليا" التي ظهرت في العصر العباسي، والتي أهملها الباحثون سوى فرقة من النائحات اللواتي كن في خدمة الأسرة البرمكية، يذهبن إلى قبور أسيادهن ويبكين مجدهم الغابر، وفي الوقت نفسه ينحن على مصيرهن هن.
وكما نجد الفرق إلى جانب العالمة نجد الفرق إلى جانب الراثي الذي يكتفي عادة بقصيدة رثاء. وما تزال لدينا في الريف بقايا"الندابات" اللواتي تدفع لهن أجور عالية لإقامة"مندب" حزن على الميت. وقد استبدلت الندابات هذه بالفرق الكشفية التي يأتي بها أهل الفقيد لتتقدم المأتم تنفخ الأبواق وتقرع الطبول وتدق الصنوج بنغمة كئيبة وألحان جنائزية(ريوكويم) حزينة جداً.
وفي الريف اللبناني، بل في المدن أيضاً وإن بدرجة أقل يدفعون أجراً كبيراً إذا ما أرادوا تكليف فرقة من الفرق الزجلية الكثيرة، لتأخذ على عاتقها مهمة تصنيع الحزن. وتبدأ الفرقة بتعداد مناقب الفقيد ثم تنتقل إلى الأعمال الخيرية التي قام بها، ثم تنتهي بتصوير ما أصاب الأهل من الحزن، إثر الفجيعة التي منوا بها بفقد الراحل، كما تصور حزن الطبيعة أيضاً، تماماً مثلما كان الأمر في طقوس الموت. وقصيدة الرثاء برمتها منقولة من هذا الطقس الذي فرضته دورة الطبيعة فأوحت للخيال الأدبي ان أرباب الإخصاب قد غادروا الأرض إثر حادثة فاجعة.
ومن يشاهد النسوة اللواتي هن من أقرباء الميت يتحلقن حول نعش الفقيد، ولاحظ كيف تبدأ إحداهن الندب، حتى إذا تعبت استلمت غيرها دورها... وهكذا، يتذكر الندابات القديمات اللواتي لم يبق منهن اليوم إلا بقايا، اللواتي منهن تعلمت النسوة أصول الندب وصار تقليداً له أصوله، فلا يجوز مثلاً أن يكون الصوت ناشزاً، ومن كان صوتها ناشزاً لعبت دوراً آخر وهو اللطم التمثيلي على الفخذين والوجنتين. والأشعار والأغاني التي تقال معروفة ومشهورة وهي تنصب في"مدح الميت" وذكر محامده. وكما يفعل الشعراء المداحون عندنا في تغيير اسم الراحل في القصيدة قبل تلاوتها على راحل آخر، كذلك كانت الندابات المختصات، أو النسوة النائحات يفعلن إذ يستبدلن اسماً باسم والشيء الملفت للنظر أن لحن"الموليا" الهادئ الحزين هو الذي كان يحتل المقام الأول في نوبات الندب. وهذا لحن ابتكرته موالي البرامكة، إلا أن طقوس الحزن ترجع إلى أقدم أيام البشرية، فقد تشكلت تقاليدها منذ أن استرعت ظاهرة الموت اهتمام الناس، فتأملوا فيها وردوا عليها بهذه التقاليد.