3-رؤى الآخر:
من ينفي الآخر ينفي ذاته، لأن الآخر مكمّل للذات، ومن يختزل الآخر
يختزل ذاته. ذلك أن الذات المتعددة تقتضي وجود آخر متعدّد، لقد اختزل مصطفى سعيد في
رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، اختزل الغرب إلى أنثى مستجيبة والشرق
إلى ذكر فحل، فوقعت الكارثة، لقد تحوّل مصطفى سعيد الصيّاد الذي لا يشق له غبار في
الإيقاع بالنساء إلى طريدة تقتنصها جين موريس بكل عنجهية وصلف. تقابل هذه الصورة
الأخلاقية الشوهاء صورة دينية لا تقل عنها تشويها ففي "عصفور من الشرق" لتوفيق
الحكيم تبدو الأمور محسومة بشكل حاد: الغرب مادي ملحد يطوّر فلسفة وضعية، بينما
الشرق هو روحاني مؤمن يطور قيما إنسانية. وفي "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، اسماعيل
يفقد الإيمان في لندن بسبب ماري البنت التي أحبّها، وعندما يعود إلى مصر يستمرّ في
معاداته للدين والخرافة ويحطّم قنديل أم هاشم. وبعدها يثوب إلى رشده، فصار يعالج
مرضى العيون بالزيت المقدس وبالأدوية الصيدلانية، أي بالدين والعلم.
وقد تعاملت بعض الروايات مع الآخر بصورة أكثر موضوعية وأقل اختزالا.
بالعادة يصور الأدب الساذج العدوّ على أنه البلاء الأعظم والطاعون المقيت والشيطان
الرجيم، ويفقد بشره كل صفة إنسانية. خلافاً لهذه الصورة الساذجة يصف لنا غسان
كنفاني العدو الصهيوني بأشكال مختلفة حسب الشخصيات الروائية. ففي "عائد إلى حيفا"
تظهر ميريام كوشن البولونية الأصل والتي أسكنتها الوكالة اليهودية في بيت سعيد ،
سيدة مهذبة رقيقة الحواشي لا تتجلى عليها علامات الغطرسة الصهيونية. فالآخر، وإن
كان ينتمي إلى معسكر الأعداء، قد يكون إنسانياً أكثر ربما من الجار المحسوب على
معسكرنا. في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق "لعبد الرحمن منيف، تظهر كاترين
البلجيكية التي أحبها عبد السلام أثناء سنوات التخصص، تظهر أكثر إنسانية من الحكام
المتخلفين والجلادين.
وتطرح مسألة الآخر مسألة مرتبطة بها، ألا وهي مسألة الهوية.
في هذا الزمن العربي المفتّت الذي ضاع فيه الخيط الرفيع الفاصل بين
النور والظلمة، نلاحظ أن الرواية عالجت مسألة الانتماء والهوية بكثير من الإسهاب ما
هي هوية المجتمع السعودي؟ تلك هي المسألة التي تطرحها خماسية عبد الرحمن منيف. ما
هي الهوية السورية؟ هذا ما تطرحه "مدارات الشرق" لنبيل سليمان، ما هي خصوصية الهوية
الجزائرية؟ هذا ما طرحته رواية "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة.
ومن يطرح مسألة الهوية يتساءل عن المفاهيم التي تحدد هذه الهوية لقد
خاضت معظم روايات السجن السياسي في مسألة المواطنة وفي علاقة السلطة الجلادية
بالوطن والشعب كما خاضت في مسألة الإنتماءات المختلفة: الحزبية، المناطقية،
الجهوية، الدينية، القطرية، القومية.. وتتداخل الأوراق، فيضيع الحابل بالنابل، بسبب
تماهي السلطة مع الوطن بالتالي، ومن جهة نظرها، يصبح الانتماء إلى السلطة هو
الإمكان الوحيد للانتماء إلى الوطن. وهكذا يتم اختزال مسألة الهوية لتصبح شعاراً
آنياً أجوف يتغيّر بتغيّر هذه السلطة. فيجتزأ الانتماء ويشّوه، فبدل أن يكون انتماء
متجدداً وخلاقاً وشمولياً، يصبح انتماء لحالة أو لظرف أو لسلطة ويفقد بالتالي كل
مقومات الانتماء الطبيعي، حسب ما وصلت إليه البشرية في نهاية الألفية الثانية.
وانطلاقاً من ذلك، يظهر "البطل" الروائي شخصاً عادياً فقد صفحات
البطولة والتكريم والتقديس، لا بل أصبح شخصاً اغترابياً مفتتاً يعيش زمن الانحسار
والهزيمة وكما في الروايات الأوربية تم الانتقال من البطولة المجيدة إلى شخصية
الإنسان العادي، كذلك انتقلنا في الرواية العربية من البطل المبهر الذي لا يشق له
غبار لأنه بطل، إلى شخص عادي تتقاذفه تيارات الحياة اليومية العربية وتدميه مشاكلها
وتعقيداتها.
وهكذا يجد القارئ نفسه في الرواية العربية الجديدة أمام إشكالية
حادة تسائله: هل الأنا العربية تتناقض مع الآخر؟ هل الأنا تمثل الصديق والآخر يمثل
العدو؟ أليس الأنا والآخر صديقان وعدوان معاً؟ هل هناك صراع حتمي بين الأنا والآخر
أم تآخ وتكامل بينهما؟ أميل إلى القول بأن عصر الانفتاح الذي نعيشه في آخر القرن
العشرين، سيفرز -بالرغم من كل الحروب والنزاعات- تكاملاً حتمياً بين الأنا والآخر