زمة الاستشراق
لقد أطلق هذه العبارة أنور عبد الملك في مقالة له بعنوان " الاستشراق في أزمة " نشرها في مجلة الجدلية الاجتماعية La Sociale Dailiqtique باريس عام1971م. وأعيد نشرها في مجلة الفكر العربي المعاصر) (عدد 32في) تناول فيها نقد الاستشراق من حيث مسلماته ومناهجه وأدواته، وأكد على ضرورة نقد الاستشراق لاسيما وان الدول التي كانت خاضعة للاستعمار أصبحت دولاً ذات سيادة " أصبحوا "ذواتاً" أسياداً"([1]).
وختم عبد الملك مقالته بعدد من التوصيات حول إعداد الباحث الغربي في الدراسات الاستشراقية من حيث معرفة اللغة والتمكن من المعارف المختلفة الخاصة بالعالم العربي الإسلامي. وكان مما قاله :" لقد حان الوقت لاعتماد توجه جديد بالضرورة ، ويرى المرء من الناحية الموضوعية أن مختلف قطاعات الاستشراق المعاصر في السنوات الأخيرة قد بدأت تعي هذه الضـرورة. "([2])
أما الدكتور محمد خليفة فقد تناول أزمة الاستشراق بمذكراته التي أثبت هنا نصها مع بعض الإضافات التي أشير إليها في حينه:
تعود أزمة الاستشراق المعاصر إلى عدد من الأسباب التي يعود معظمها إلى فترات تاريخية مختلفة منها أسباب واكبت الاستشراق منذ بدايته واستمرت معه حتى العصر الحديث، ومن بينها أسباب تعود إلى التاريخ الحديث والمعاصر. وقد أثرت هذه الأسباب على طبيعة الاستراق وأدت إلى نوع من الغموض في ماهية الاستشراق وطبيعته وفي شخصية المستشرقين عبر العصور وولدت هـذه الأسباب مجموعة من الأزمات المتداخلة فيما بينها أزمة الهوية وهي تختص بغموض الاستشراق وعدم القدرة على تحديد طبيعته هل هو علم أو حركة فكرية أو مذهب أو غير ذلك.
وولدت أزمة منهجية من حيث أن الاستشراق ليس له منهج واضح يمكن مقارنته بالمناهج العلمية التي طورتها العلوم المختلفة نظرية أو تجريبية أو اجتماعية أو إنسانية الأمر هذا فظلاً عن الأزمة الأخلاقية التي نتجت عن الارتباطات السياسية والدينية للاستشراق الأمر الذي أدى إلى استغلال المعرفة الاستشراقية بواسطة القوى السياسية الاستعمارية والقوى الدينية التنصيرية والصهيونية وأخيراً هناك الأزمة التي أوجدها الاستشراق في العلاقة بين الشرق والغرب وبخاصة العلاقة بين المسلمين والغرب وما تولد عن هذه الأزمة في العلاقات من صراع ديني حضاري بين الإسلام من ناحية وديانات الغرب من ناحية أخرى .
وهذه الأزمة لها أسبابها ومظاهرها ولها أيضاً نتائجها وآثارها.
أولاً : أسباب الأزمة وهي :
1- التبعية الاستشراقية للاستعمار والتنصير والصهيونية.
2- تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية في الغرب.
3- غياب المنهج في الاستشراق .
4- الصحوة الإسلامية ومواجهة الاستشراق والتنصير.
1- التبعية الاستشراقية للاستعمار والتنصير والصهيونية :
من المعروف تاريخيا أن الاستشراق ارتبط منذ بدايته بقوى مختلفة من أهمها القوى السياسية التي رأت في الإسلام والمسلمين عدواً للغرب وللنصرانية ولليهودية منذ ظهور الإسلام وانتشاره في بلاد كانت نصرانية الأصل، بل تمثل قلب العالم النصراني مثل منطقة الشرق الأدنى القديم وبخاصة فلسطين التي يعدها النصارى واليهود أرضاً مقدسة شهدت مولد الديانتين اليهودية والنصرانية. وشهدت أيضاً ظهور أنبياء بني إسرائيل ومن بينهم عيسى عليه السلام وبها الآثار الدينية والتاريخية المقدسة في هاتين الديانتين.
كما انتشر الإسلام فيما بعد في بلاد نصرانية خارج حدود الشرق الأدنى القديم في أوروبا وأفريقيا حيث حل الإسلام محل النصرانية في البلاد التي كانت خاضعة للدولة البيزنطية، ثم تمكن المسلمون من فتح الأندلس وجزر البحر المتوسط كما توغلت الفتوحات العثمانية في قلب القارة الأوروبية. وقد أدى هذا السقوط لمعظم بلاد النصرانية في يد المسلمين إلى اعتبار الإسلام والمسلمين العدو الأول للغرب، وبدأت استعدادات الغرب لاسترجاع الأرض النصرانية والهجوم على الإسلام في الوقت نفسه، فقام الغرب بحملاته الصليبية لاسترداد بيت المقدس وكل الأراضي النصرانية السابقة (بزعمه) كما استعد الغرب فكرياً ودينياً لمواجهة الإسلام بتشجيع الاستشراق وحض المستشرقين على الحصول على المعرفة الإسلامية وترجمة معاني القران الكريم والاستعداد لتكوين جبهة فكرية دينية لمهاجمة الإسلام.
وبعد فشل الحروب الصليبية استمر الهجوم الفكري الديني إلى مرحلة الاستعمار الحديث الذي جمع من جديد بين الهجوم العسكري والهجوم الفكري وهو الوضع الذي استمر إلى التاريخ المعاصر حيث انتهى الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين واستمر الهجوم الديني والفكري .
وواضح من هذا العرض التاريخي السريع أن علاقة العرب بالإسلام والمسلمين مبنية على أساس من العداوة والكراهية واستخدام كل الوسائل الممكنة لمواجهة الإسلام والمسلمين. وخلال هذا الصراع الطويل أصبح الاستشراق علماً تابعاً للقوى الغربية السياسية والدينية ولم ينفصل عنها سوى في خلال مراحل انحسار المد الاستعماري أو فشل الجهود العسكرية، ولذلك فالمواجهة الفكرية والدينية أطول عمراً واستمرارية من المواجهة العسكرية. ولم يشعر المستشرقون بحرج من علاقاتهم بالقوى السياسية والدينية في بلادهم وفي الغرب بعامة فالإسلام عدو الجميع سواءً كانوا سياسيين أم مفكرين أم سياسيين . فالمستشرق مواطن ينتمي إلى بلده ويشعر بأنه يؤدي واجبه ويعمل على تحقيق مصالحها بصرف النظر عن كون معرفته أو علمه مستغلاً من جانب القوى السياسية والدينية. فهو مواطن لا يمكن عزله عن بلده ومصالحه ولم يشعر المستشرق بحرج من هذه العلاقة خاصة في الفترات الاستعمارية الطويلة مثل فترة الحروب الصليبية التي زادت عن قرنين وفترة الاستعمار الحديث التي غطت ثلاثة قرون تقريباً ".
وأود أن أضيف إلى هذا الارتباط بعض الحقائق التي أصبحت معروفة عن ارتباط الاستشراق أو الدراسات العربية الإسلامية بالدول الغربية التي من أهدافها استمرار الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي في المجالات المختلفة: السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وأبدأ ببريطانيا فهي التي احتلت أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي فقد اقترح أحد أعضاء البرلمان البريطاني عام 1916م إنشاء معهد للدراسات العربية والإسلامية في بريطانيا. فقد كلفت الحكومة البريطانية لجنة حكومية عام 1947م برئاسة الايرل سكاربرو لدراسة أوضاع الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية، وتقديم المقترحات اللازمة لاستمرار هذه الدراسات وتطويرها. وقد أعدت اللجنة تقريراً مؤلفاً من حوالي مائتي صفحة عدّه الدكتور خليق نظامي دستور الاستشراق الحديث. حيث أوضحت استمرار حاجة بريطانيا لمعرفة الشعوب العربية الإسلامية والحاجة إلى متخصصين في هذا المجال.
وقامت الحكومة البريطانية بتأليف لجنة أخرى عام 1961م برئاسة السير وليام هايتر لدراسة أوضاع الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات البريطانية وقامت اللجنة بتمويل من مؤسسة روكفللر بزيارة عدد من الجامعات الأمريكية والكندية للإفادة من التجربة الأمريكية والكندية في هذا المجال. وأصدرت تقريراً ضخماً ضمنته توصيات كثيرة منها ضرورة استمرار هذه الدراسات وتخصيص ميزانيات لدعم هذه الدراسات، واقتراح إنشاء أقسام علمية جديدة.
أما في الولايات المتحدة فإنها بعد الحرب العالمية الثانية وجدت أنها يجب أن تحل محل النفوذ البريطاني ولمّا لم تجد العدد الكافي من المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية فقد عرضت على عدد من كبار المستشرقين الأوروبيين العمل في الجامعات الأمريكية ومن هؤلاء على سبيل المثال هاملتون جيب الذي أسس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد ، ونال جيب مكانة رفيعة في هذه الجامعة. كما استقدمت جوستاف فون جرونباوم بجامعة كاليفورنيا بلوس انجلوس، وبرنارد لويس الذي عمل عدد من السنوات أستاذاً زائراً حتى انتقل كلياً إلى جامعة برنستون عام 1974.
وأصدرت الحكومة الأمريكية مرسوماً بتوفير مبالغ ضخمة لدعم مراكز دراسات الشرق الأوسط في عدد من الجامعات الأمريكية ( أربع وعشرين جامعة ) من بينها جامعة برنستون وجامعة نيويورك وجامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس وفي بيركلي وجامعة انديانا في بلومنجتون وغيرها. وما تزال هذه الجامعات منذ الخمسينيات وحتى هذا العام 1997 تتلقى الدعم الحكومي الأمريكي. ولم يقتصر الدعم الحكومي الأمريكي على هذه الجامعات فهناك معاهد ومراكز بحوث كثيرة تتلقى الدعم المباشر من الحكومة الأمريكية. وبالتالي فان الغالبية العظمى من الباحثين (المستشرقين) يعملون لدى الحكومة الأمريكية.([3])
وفي عام 1985 عقدت لجنة الشؤون الخارجية جلسات استماع لعدد كبير من الباحثين في مجال الدراسات العربية الإسلامية ونشرت محاضر الجلسات في كتاب بلغت عدد صفحاته أكثر من أربعمائة صفحة وشارك فيه عشرات الباحثين المتخصصين في هذا المجال. ( وقد قامت مجلة المجتمع الكويتية بنشر معظم هذا التقرير في أربع وخمسين حلقة.قبل احتلال العراق الكويت)([4])